على بعد مليمتر واحد فقط 2

0



على بعد مليمتر واحد فقط

عبد الواحد استيتو

ٌ طرق خفيف على الباب. ينهض خالد من سريره بين حلم ٍ ويقظة. بقايا حلم
ّ لازالت تتابعه حتى الباب. يقف قليلا ليقاوم ترنحه. يعتدل ثم يمسد شعره في
حركة تلقائية لا تغير شيئا من حالته، ويفتح الباب.
ْ - آه.. صباح الخير.. مرحبا «عــزيزة رحمة..» تفضلي.
- لا..لا وقت لدي يا ولدي.. لقد أعددت بعض «الحلوى د كيكس» واحتفظت لك
بنصيبك.. أعرف أنك تستطيبها كثيرا.
- أوه! لا أدري كيف أشكرك.. لماذا هذا التعب؟
ّ - لا تعب هناك يا ولدي.. أنت لا تدري أي أفضال لوالدتك علي ِ وأي عشرة ومودة
كانت بيننا.. رحمها الله.. الطيبون يرحلون تباعا ً ٌ .. أنت بعض منها ومن الزمن
الطيب..
- «الله يرحم الوالدين..» ألن تدخلي على الأقل لترتاحي من الطوابق الستة
ّ التي صعدتها للتو.. أنت تلهثين..
َ - لا عليك.. لازال أمامي عمل آخر.. الطوابق التي ذكرت سأنظفها درجاتها
ّ كل ّ ها بعد قليل.. فلا تقلق على جدتك.. فقط، أنت حاول ألا تنهي الحلوى كلها
َ هذا اليوم.. أعرف هوسك بها!
- لا أستطيع أن أعدك بشيء.
ِ تستدير رحمة في بطء ٍ امرأة جاوزت السبعين وتلوح بكفها دون معنى. يتأملها
ّ هو في حزن مشوب بكبير مودة. رحمة من القلائل – والقليلات – الذين لايزالون
يقطنون بذات العمارة منذ عهد الاحتلال الإسباني لمدينة طنجة. عملت مع
الإسبان آنذاك كحارسة للعمارة، وبقيت فيها تعتني بها وتراقب خلق الله وهم
يجيئون ويروحون.
- أي تاريخ تحكيه تجاعيد وجهك يا «عزيزة رحمة»؟ يقول خالد لنفسه.
ّ سكان الحي كلهم ينادونها «عزيزة رحمة.» مع أنه لا حفيد لها، لكن الكل
يعتبرها جدته. حتى القادمون الجدد يفعلون ذلك. إنها المرأة الطيبة القادمة من
عالم طاهر يأبى أن يتلوث.
21
رسالة جديدة على بريده الإلكتروني:
------
« إلى الكاتب المحترم خالد.أ،
ّ نشكر لك مساهمتك الأدبية القيمة معنا، ونرسل لك طيه تفاصيل
التحويل البنكي والذي قيمته  350دولار، وذلك عن أربع قصص قصيرة كنت
قد نشرتها بمجلتنا.
نشكركم مجددا، ودمنا على تواصل.
إدارة مجلة «المبدعون»



---------
يقرأ خالد الرسالة الإلكترونية مرات ومرات ودقات قلبه تتسارع. ضاقت
فلما استحكمت حلقاتها، جاءته رسالة البشرى تمشي على استحياء. أخيرا
ّ سيستطيع أن يتحرك بحرية من جديد، على الأقل لفترة. مذلة النهار وهم
الليل سيرحلان.
هذه من الفوائد القليلة التي يجنيها من وراء عشقه للكتابة. لماذا نكتب؟
السؤال الكبير يجيب عنه هو، وهو يزدرد الحلوى: لكي تصلنا الدولارات المحترمة
طبعا! ثم يضحك ملء فيه.
فتحت الرسالة شهيته للأكل، فالتهم طبق الحلوى مع كأس الشاي وهو
ّ يفكر أن عليه أن يذهب الآن للبنك ليتأكد أن الأموال قد حولت فعلا. تصفح أحد
المواقع الإخبارية المحلية كعادته بسرعة فوقعت عيناه على خبر أثار استغرابه
وغضبه:
«علم موقع «طنجة الآن» قبل قليل أن عصابة أجنبية استطاعت سرقة
لوحة ثمينة تعرف ب «الموناليزا المغربية» من المتحف الأمريكي بالمدينة
(المفوضية الأمريكية سابقا.)
وقد ذكر مصدر أمني مطلع أن السرقة تمت بطريقة أفلام هوليود، حيث
استعملت عصابة متنكرة مكونة من ثلاث أشخاص غازا مخدرا، قبل أن
تسرق اللوحة وتغادر المكان بكل هدوء..
تفاصيل أخرى نوافيكم بها بعد حين»...
22
هذا ماكان ينقصك يا طنجة. أن يسرقوا بقايا بقايا جمالك. كان قد قرأ يوما
أن هذه اللوحة هي لفتاة من طنجة إسمها «الزهرة،» ورسمها فنان اسكتلندي
إسمه جيمس ماكباي سنة  .1952الزهرة – حسب قراءاته – لازالت حية لحد الآن
وأحفادها يعيشون بالولايات المتحدة الأمريكية.
الحمد لله أنهم لم يؤذوا أحدا. قال هذا لنفسه هذا وهو يرتدي ثيابه استعداد
للخروج، قبل أن يضرب على رأسه بقوة وكأنه تذكر شيئا..
- لم يؤذوا أحدا؟ يا إلهي، لقد نسيت تماما أن صديقي «المهدي» يعمل كحارس
أمن خاص هناك.. أي فاقد للذاكرة أنا!!
حاول أن يتصل فأبى الهاتف إلا أن ينطفئ بسبب ضعف البطارية. فكر أنه
فعلا فيلم هوليودي بالنسبة لكل الأطراف. وضع الهاتف في جيبه، ثم حمل
طبق الحلوى الذي لم تعد فيه سوى النقوش التي تزينه، ليعيده لصاحبته، وهو
يغمغم:
- قلت لك يا «عزيزة رحمة» أنني لا أستطيع أن أعدك بشيء.
ّ نزل درجات الطوابق الست متجاهلا المصعد الذي يعمل مرة كل  365يوما.
ّ سلــم الصحن لرحمة التي وجدها تنظف درجات الطابق الثالث، فابتسمت
ولم تعلق. تدعو معه بالتوفيق بينما هو يواصل نزوله السريع حتى غاب صوتها
عن مسامعه تماما.
23
-7-
يلهث خالد وهو يسرع الخطى للوصول إلى المتحف الأمريكي. أسعده أن الخبر
ُ يفـيـد ْ أن لا أحد تأذى مبدئيا، لكنه كان قلقا على صديقه. لا يخشى على
ٌ صديقه من الأذى النفسي في الحقيقة، فهذا ترف ليس من حقه. الأذى النفسي
متروك لفئة أخرى من الناس. فئة تذهب إلى الطبيب بمجرد ما تشعر ببعض
العياء. من اكتشافاته الجديدة أن هناك مرضا إسمه «لافاتيك.» إن كان قد نجح
في الترجمة فهم يقصدون «التعب.»
ُ التعب مرض.
ُ المشي رياضة.
يالها من روعة! هو يعتبر المشي عملا يوميا لا يلتفت إليه، وهو بالنسبة
ّ للآخرين رياضة. لكل ٍ ّ وجهة هو موليها.
فوجئ بالعدد الكبير من المحيطين بمكان الحادث. يعرف أن ثلاثة أرباعهم
فضوليون ولا يهتمون إطلاقا بالحدث نفسه، سوى ما سيعودون به في جعبتهم
كي يرووه لأصدقائهم وهم يجلسون في “رأس الدرب” عندما يدلهـِ ّ ـــم الليل.
اخترق الجموع بصعوبة قبل أن يصل إلى حاجز أمني حديدي.
ّ أوقفه رجل شرطة بيد حازمة صارمة. يمنع الدخول منعا باتــا. قال له هذا
والتفت إلى زميله يواصل حديثا بُـــتر فجأة.
يرتكب المرء حماقات كثيرة في شبابه، من بين هذه الحماقات إصدار جريدة أدبية
من مصروف جيبه. لكن.. في مواقف كهذه يتضح أن بعض الحماقات أفضل من
بعض. بل إن بعضها يكون مفيدا جدا أحيانا. لذا أخرج خالد بطاقة الجريدة التي
كان قد أصدرها ذات جــــنون، وأشهرها في وجه الشرطي.
ّ - أنا صحافي، أريد أن آخذ بعض المعلومات المتعلقة بالحادث. لن أصور شيئا.
فقط سأحاول معرفة تفاصيل الحادث.
بدت الحيرة على وجه رجل الأمن وهو يتأمل البطاقة. اقترب منه صديقه وهو
يرسم على وجهه علامات الحكمة. داعب ذقنه وهو يتفحص البطاقات من وراء
كتف رفيقه.
24
ّ - هممم.. أنت مدير تحرير جريدة «ألف باء»؟!! لا بأس، دعه يمر.. لكن، أنت، لا
تتأخر كثيرا بالداخل.
- لا إطلاقا، فقط سأنجز مهمتي وأرحل.. أنت تعرف أننا في «ألف باء» لا بد أن
نكون سباقين إلى الخبر.
ّ - هيه.. نعم نعم.. هيا.
كادت تفلت منه ضحكة. يبدو أن حماقته كانت عاقلة تماما لأنه اختار اسما لا
ْ يوحي بطبيعة الجريدة الأدبية.. «ألف باء..» إسم أينما وضعته يأتي بخـــير.
واضعا جبينه بين سبابته وإبهامه كان يجلس «المهدي» والعياء واضح جدا
على جسمه المتهالك فوق كرسي بلاستيكي. اقترب منه خالد ووضع يده على
كتفه مواسيا.
ّ يعلم أن الكلام في مثل هذه المواقف يكون أحيانا مجرد عبء آخر يُضاف إلى
المصيبة.. لذا ترك «المهدي» يأخذ المبادرة، وهو يجلس بجواره على الأرض..
- لماذا أتعبت نفسك وأتيت.. من السهولة أن تتورط في أي مصيبة في حدث
كهذا أيها الأحمق؟
- لا مصيبة أعظم من تعرض صديق للخطر، بينما تبقى أنت جالسا تقرأ الخبر
وتداعب أصابع قدميك وكأن الخبر لا يعنيك...
- ما أطيبك!
- يا خبيث.. طمئني عليك.. لم يتأذ ّ جسدك؟
- لا، إطلاقا.. أطلقوا غازا مخدرا بالكاد يُـــرى.. لم أشعر بنفسي إلا وهم
ينعشونني. هناك بعض الدوار الآن فقط، لهذا لم يأخذوني إلى المصحة.
ّ - هذا تطور خطير، جريمة منظمة في قلب طنجة.. ومن أجل لوحة فنية؟ يبدو
هذا كواحد من أفلام الإثارة..
- كانوا ثلاثة أشخاص بمظهر سياح عاديين جدا.. يصعب جدا أن تشك في
أمرهم.
شعر أن صديقه يشعر بتأنيب الضمير باعتباره حارس أمن المكان. قال له:
- لم يكن لأي شخص آخر أن يدرك نواياهم. أنت – وكل من هو مكانك – تحكم
بالظاهر، والله يتولى السرائر.
- هم ينتظرون مني أن أعرف حتى السرائر.
25
- حسنا.. أهم ما في الموضوع الآن أنك بخير.. سأتركك الآن وسأتصل بك فيما
بعد. أعتقد أنه سيكون أمامك يوم طويل..
- بدون شك.. الكاميرات الموجودة ستحكي لهم كل شيء. لكنهم سيتلذذون
بالتحقيق معي. أعرف هذا.
- لا عليك.. صبرا جميلا.
- هو ذاك.
غادر المكان وهو يتأمل الفوضى البشرية العارمة. سبق له أن زار هذا المكان
ّ يوما ويذكر وقتها أنه بقي لدقائق طويلة يحاول أن يفر ّ من نظرات الزهرة، أو
زهرليزا (الموناليزا المغربية.) كان يحاول أن يثبت أن هناك خللا في «موناليزيتها.»
ذلك العناد الطفولي والرغبة في إثبات أن كل ما لدينا لا يساوي شيئا أمام ما
يأتي من العالم الخارجي. كان هذا قبل أن تزيده سنوات العمر حكمة ويعرف أن
ُ ما لدى مدينته ووطنه من قيم وآثار وتقاليد، لو و ّ زع على العالم لكفاه.
أخرج هاتفه من جيبه ليعرف الوقت فتذكر أن بطاريته قد فرغت. تذكر أيضا
– فجأة – موعده الذي نسيه تماما مع هدى في مقهى «فيلا جوزفين» بمنطقة
الجبل الكبير.
ّ - رباه! كيف نسيت هذا.. !!
تذكر أن هدى طلبت منه أمس في حوار فيسبوكي سريع أن يكون لقاؤهما
صباحيا بتلك المقهى كي يستمتعا بالنظر إلى طنجة وهي تتمطى وتنفض
عنها غبار الكسل وبقايا قطر الندى.
اتفقا على أن تكون الحادية عشرة صباحا موعدهما. سأل أحد المارين عن الوقت
فأجابه أنها الحادية عشرة وثلاثين دقيقة. لقد تجاوز الموعد بثلاثين دقيقة. شعر
بكره شديد لنفسه. يكره هو أن يتركه أحدهم ينتظر حتى ولو كان صديقا، فما
ّ بالك بامرأة تنتظر رجلا تعر ّ فت عليه للتو؟!
استقل سيارة أجرة. استأذن السائق في منتصف الطريق كي يسحب أموالا
من الشباك الأتوماتيكي. بعد خمسة عشر دقيقة كان قد وصل المقهى. قبل أن
ينزل قال له سائق التاكسي:
- ألا تعتقد أنني على حق، وأنهم ظلموني؟!
ُ آه!! إذن فقد كان السائق يتحدث طوال الطريق! كيف ص ّ ــمت أذناه عنه؟ لقد
26
كان جسده هناك، لكن روحه كانت تجالس هدى في المقهى معتذرة منها طالبة
الانتظار لدقائق.
أجاب خالد:
ّ - طبعا أنت على حق.. الناس أصبحوا وحوشا في هذه الأيام، لا يقدرون الطيبين
أمثالك.
- بالضبط.. هذا ما أقوله لهم.
دخل المقهى. تفحص وجوه الجالسين في الشرفة.. لا أثر.
فعل نفس الشيء في الداخل .. لا أثـــر.
أين أنت يا هدى؟ أتراك تظنينني الآن واحدا من الذين يقولون ما لا يفعلون؟
ّ أسوأ الناس طرا المخلفون وعودهم. والآن أنا واحد منهم في نظرك. المصيبة أن
هاتفك مقفل. أهي عقوبة؟!
كان قد التمس من نادل المقهى أن يشحن هاتفه المحمول ففعل.
يحاول الاتصال مرات ومرات دون جدوى.
جاء المساء بسرعة. استسلم الضياء لسلطة الليل البهيم. عاد هو إلى
شقته وفتح حساب الفيسبوك منتظرا أن تظهر هدى في أية لحظة.
ّ الفيسبوك خال مقفر كأرض شهدت نهاية حرب للتو ّ . الرياح تصفـر في
العالم الافتراضي الأزرق. رياح كئيبة.
يبدو أن ما كان يخشاه قد وقع.
هناك دائما أسوأ من الأسوأ...
ٌ أسوأ من عدم وجود علاقة.. علاقة مبتورة.
ٌ أسوأ من الغياب.. غياب لا تستطيع أن تُدرك صاحبه.
ٌ أسوأ من الوحدة.. أنيس يغيب فجأة بسبب غير مفهوم.
يزفر زفرة مليئة بتعب النهار وحنقه وحزنه، ويتساءل: بالله عليك.. أين أنت يا
هدى؟!!
27
-8-
)1(
«هؤلاء الرجال الوحيدون؟
من أين يأتون؟
وإلى أين ينتمون؟»
هائم على وجهه.. أشعث.. أغبر.. نحيف جدا.. ميت حي.. شبه رجل. لا هدف
له إطلاقا. لا رغبة له في فعل أي شيء. يبحث ذات اليمين وذات الشمال، صعودا
ونزولا، ركوبا ومشيا على الأقدام، عن شيء واحد فقط.
يكره نفسه. يكرهه الآخرون. هذا لا يهمه. لديه هدفه الأسمى الذي يعيش/
يموت من أجله. يهرش جسده وهو يتمشى بشارع المكسيك بطنجة، حيث
ّ خفت حركة المشاة والمتسوقين والمتسكعين أيضا مع اقتراب منتصف الليل.
يأخذ نفسا عميقا من بين أسنانه التي يضغطها بقوة دون إرادة.
المال.. المال.. لا يريد غيره الآن. المال الوحيد الذي يستطيع أن يوقف هذا العذاب.
بالمال يشتري «الغبرة» (الهيروين.) وباستنشاق الغبرة ينتهي العذاب ويتوقف
دمه عن طلبه المتزايد للمادة.
هاهي ذي الضحية المناسبة.. تتحدث في هاتفها بكل ثقة، وهي تهم بركوب
سيارتها. هذه غـِ ّ ــــرة أخرى تتصرف وكأنها محاطة بكتيبة من رجال الأمن.
يلتفت ذات اليمين وذات الشمال باحثا عن الفجوة. والفجوة كبيرة جدا في
الحقيقة لأن المكان شبه خال. يحاول أن يتصرف بهدوء وبشكل طبيعي. هي
تعطيه ظهرها وتواصل الحديث بعد أن اتكأت على باب السيارة المفتوح. أمامه
ثوان لتنفيذ المهمة.
هوب!! الهاتف في يده وهي تمد يدها بحركة عفوية وكأنها تحاول استرجاعه
بعد أن صعقتها المفاجأة. احتبست الكلمات في حلقها. هو يعلم أن الذين لم
يتعودوا على هذه المصائب ولم يستعدوا لها تكون ردود فعلهم هكذا. الصمت..
الحزن.. ثم الدموع الحبيسة في المُ ّ ـــقل. هي من هذا النوع كما خمــن.
بقيت تنظر إليه وهو يعدو متجها نحو دروب حي «المصلى» حيث يستحيل أن
تتابعه بسيارتها..
28
ّ المارة؟ كانوا قلة.
ّ بعضهم – ممن انتبهوا للأمر- ندت منهم حركات خفيفة في محاولة لملاحقته،
ّ لكنه – وهو الخبير بهذه الأمور – كان يشهر في يده الأخرى سكينا مهندا.
اقتربوا مني وستنعمون بأولى لياليكم في المقابر. هكذا يقول لسان حاله.
بثمن بخس
ٍ
هكذا، استطاع الظفر بغنيمة الليلة التي سيبيعها لأول مشتر
دراهم معدودة.
)2(
من قال أن الرسائل في بلجيكا تحمل الأخبار الجيدة؟ لا أحد. ولن يقولها أحد
يوما. كلما وجدت مظروفا فاعلم أنه يحوي مصيبة من المصائب: ضريبة، إنذار،
ّ غرامة... عبد الحق تعود على هذا، لهذا لم يتفاجأ كثيرا عندما فتح المظروف
ووجد رسالة هي عبارة عن تذكير أخير موجه لأخته من أجل أن تتوجه إلى
المصالح المختصة في أقرب وقت من أجل تمديد أجازتها المرضية. وأقرب وقت كان
– للأسف - هو الغد.
ّ ولأنه تعود على هذه المفاجآت تصرف عبد الحق بسرعة. اتجه إلى جهاز الكمبيوتر
وهو يدعو الله أن يجد تذكرة طائرة من طنجة إلى أي مطار قريب. الحقيقة أنه
كان محظوظا. كان هناك مقعدان في رحلة السابعة صباحا من طنجة نحو
مطار «شارل لوروا.» لا بأس. سينتظرها هناك ثم ينقلها مباشرة إلى الإدارة
المختصة كي تنهي معاملتها كي ينتهي هذا المشكل بسرعة.
قضى وقتا طويلا جدا في محاولة الاتصال بأخته قبل أن تجيبه أخيرا.
- مرحبا هدى، كيف حالك؟
- بخير.. أنتم بخير؟ ما سبب هذا الاتصال في هذا الوقت المتأخر.. أقلقتني.
- منذ منتصف النهار إلى الآن وأنا أحاول الاتصال بك.. لماذا لم تجيبي؟
- هاتفي مارس الهواية التي تعشقها كل الهواتف.. التحول إلى الوضع
«الصامت» دون علمي..
- لا بأس.. لا بأس.. الحمد لله أنه اشتغل أخيرا.. وصلت اليوم رسالة من الإدارة
المختصة بالمهاجرين تعلمك أن غدا هو آخر أجل من أجل تجديد أجازتك المرضية
وإلا سيتم إلغاء التعويض..
29
- ماذا؟ بهذه البساطة؟؟
- ليس بهذه البساطة.. أكيد أرسلوا رسالة من قبل ضاعت في الطريق..
الرسالة الأخيرة كانت مضمونة.. أنت تعلمين أن سعاة البريد يهوون رمي
الرسائل في البالوعات من حين لآخر.
- وما العمل في نظرك؟
- لقد تصرفت فعلا، وقمت بحجز طائرة لك غدا على الساعة السابعة صباحا..
سأنتظرك بمطار شارل لوروا لأنقلك إلى «أنتويرب» مباشرة كي ننتهي من هذه
المشكلة.
- يا إلهي.. فاجأتني تماما..ســــ...
- هدى؟....!! هدى؟...!! ماذا يحدث لديك؟
لم يعد يسمع سوى صوت لهاث ثم انقطع الخط. أهي مشكلة أخرى من
مشكلة الهواتف الرائعة؟؟ لابأس... لقد أخبرها بالأهم.
)3(
تتجول هدى في شارع المكسيك باحثة عن الهدية المناسبة لخالد. خالد رجل
غير نمطي، غير تقليدي، ومن الحمق إهداؤه هدية عادية. لهذا تبحث هي بشكل
محموم عن هدية محددة.
بعد أن أنهكها البحث بشدة وجدت ضالتها. تضع الهدية في صندوق
السيارة الخلفي، وتخرج هاتفها من حقيبة يدها لترى إن كان هناك أي جديد.
لا تثق بالتكنولوجيا بشكل كامل، ولديها وسواس لا بأس به تجاه كل المخترعات
الجديدة.
ّ صدق ظنـــها. الهاتف يوجد في الوضع الصامت، بل هناك من يرن الآن والرقم
يدل على أن المتصل من بلجيكا. تجيب المتصل. تتحدث وهي تفتح باب السيارة.
تواصل الحديث قبل أن تشعر بأن الهاتف لم يعد هناك قرب أذنها. هناك من
خطفه. ومن خطفه يعدو وكأنه الجامايكي «بولت،» والأدهى من هذا أن بيده
سكينا يلوح بها أثناء عدوه.
تكتفي بالنظر إليه وهو يختفي تماما عن ناظرها.
30
تجلس في سيارتها شاعرة بالقهر. هذا هو حال المصائب.. لا تأتي إلا تباعا.
حاولت أن تتجاوز الصدمة وهي تقود سيارتها نحو منزلها بحي البرانص. حسب
ما أخبرها به أخوها.. فأول ما ينبغي أن تفعله هو أن تلغي موعدها مع خالد غدا
في مقهى «فيلا جوزفين» وأن تودعه، ولو فيسبوكيا.
ّ وصلت إلى منزلها وهمت بفتح الباب، لكن حارس الحي اقترب منها قائلا:
- آنسة هدى، أعتقد أن شركة الكهرباء قد قطعت التموين عن منزلك.
- ماذا؟ أنت لست جادا طبعا يا «السي عبد السلام..»
- الشيب لا يسمح لي بالمزاح يا ابنتي.. لقد حاولت أن أماطلهم أو أمنعهم
ّ فقالوا أن فواتير ستة أشهر لم تؤد بعد.
ّ الد ّ وار.. الدوار الشديد.. تمسك بمقبض الباب وتفكر في طريقة لإخبار خالد. لا
حلول إطلاقا. مقاهي الإنترنت أقفلت. وإن كان هناك واحد فغالبا ستجد هناك
من ينتظرها ليسرق منها شيئا آخر في هذا الوقت المتأخر.
يحدث هذا غالبا. هي تعتقد أن أخاها قد أدى الفواتير. أخوها يعتقد أن أباها
قد أدى الفواتير. شركة الكهرباء تعتقد أنه عليهم أن يدفعوا أو تعلن عليهم
حرب « الكهرباء مقابل المال.» الحقيقة أن شركة الكهرباء هي الوحيدة التي لا
«تعتقد» بل متأكدة.
فكرت في الذهاب إلى حي إسبانيول والبحث عن الشقة حيث يقطن. ستكون
هدية رائعة لسكان الحي كي يلوكوا سيرته للأشهر القادمة. وربما لا يروقه الأمر
إطلاقا، خصوصا أمام طبعه المتحفظ.
- اشتريت لك هذه الشمعات الأربع من باب الاحتياط.
تنتبه إلى أن «السي عبد السلام» لازال يقف بجوارها في نوع من التعاطف
الصامت.
- شكرا لك «السي عبد السلام..» رجل شهم كما عهدتك.
- لا عليك.
تدخل المنزل وتشعل شمعة وهي تجمع على عجل حاجياتها في الحقيبة. تقرص
لحمها كي تتأكد أنها لا تحلم. هل يعقل أن يحدث كل هذا بهذه السرعة؟
31
في المطار تحاول هدى أن تجد حلا من أجل إرسال رسالة فيسبوكية لكن جميع
الخدمات تغط في نوم عميق. ليس هناك كمبيوتر عمومي للأسف. حتى الاتصال
بخالد من هاتف عمومي غير ممكن لأنها لا تذكر رقمه.
ّ لقد علمتها التكنولوجيا – كما علــمت جيلها – أنه لا حاجة للذاكرة إطلاقا.
هناك من سيقوم بالمهمة نيابة عنك دائما فلا تبتئس وتوقف عن تشغيل خلايا
مخك الرمادية. إنعم بالراحة ونحن نتكفل بكل شيء.
ّ حسب برنامجها المفاجئ المكثــف، هي لن تستطيع التواصل مع خالد، إذن،
إلا في المساء عندما تنهي مهمتها الإدارية.
تجلس هدى في مقعدها بالطائرة وتتأمل شاطئ طنجة الذهبي الطويل وهو
ّ يبتعد مود ّ عا، وتتساءل: ترى، ماذا ستظن بي يا خالد؟
32


لا يوجد تعليقات

أضف تعليق