على بعد مليمتر واحد فقط
عبد الواحد استيتو
صوت قطرة الماء إذ تهوي في سطل.. رسالة فيسبوكية جديدة..
يقفز خالد من مكانه إثر سماع الصوت فتطير القطة التي كانت مستكينة
ّ فوق حجره، وهي تحتج في مواء خفيض. أجهزة استشعارها - القادرة على
الشعور بالزلزال قبل وقوعه - فشلت في استشعار مشاعر خالد الملتهبة التي
ّ تحولت إلى زلزال بشري بمجرد سماعه الصوت الفيسبوكي الذي بدا له الآن
كواحدة من معزوفات «ريشارد كلايدرمان..»
- من أنت؟!
تصعقه الرسالة إذ يجد أنها من مراهق لازال يأمل أن يكون صاحب الحساب
ّ أنثى متنكرة في زي رجل. بإحباط ممتزج بالقسوة يمسحه تماما من قائمته. هذا
ما كان ينقصه.
ُ الانتظار.. الانتظار.. كم يكرهه. الموت دائما أفضل من انتظار الموت. قولي لي يا
ُ هدى أن كل شيء انتهى وسأبيت ليلتي راضيا عنك وعن نفسي. قولي لي أنك
ِ بخير وسأطرب لذلك. فقط اظهري. لا تنتهي هكذا فجأة كما بدأت. البدايات
المفاجئة رائعة، لكن النهايات ليست كذلك.
ِ لماذا جئت يا هدى إن كنت تنوين الذهاب بسرعة هكذا؟
ُ تأخرت ّ في الموعد؟ نعم فعلت. لكن، لو أصغيت لعذري لتفه ِ مت. ألم يقولوا
قديما: التمس لأخيك ألف عذر. فإن نفذت، فابحث له عن العذر الواحد بعد
الألف!
أفلتت منه ضحكة ساخرة دون أن يشعر. هاهو الآن، وهو الرجل الذي اعتقد
أنّ ّ ـه قد بلغ أشد ّ ه، يبدو كمراهق تركته حبيبته للتو لأنه لبس قميصا أزرق اللون
بينما تامر حسني يلبس اللون الأحمر.
حاول أن يشغل عقله وقلبه بالتفكير في قضية سرقة لوحة زهرليزا. كان
قد اتصل بصديقه «المهدي» في العصر واطمأن أنه فعلا بخير وأن التحقيقات
ٌ الأولية مرت بسلام. قال له المهدي أنه مدين لكاميرات المراقبة فقد كانت هي
القول الفصل في الموضوع. لقد أظهرت حركاتِ ْ ه العفوية التي شهدت له
الأمر، حسب المهدي، تم بسرعة هادئة. توزعت العصابة المكونة من ثلاثة
أشخاص في أركان المتحف، ثم قام كل منهم بتسريب غاز مخدر بالكاد يرى،
بحيث فقد جميع من في المتحف وعيهم إلا ّ هم.
- وكيف لم يفقدوا هم الوعي؟
ّ - أظهرت الكاميرات أنهم دسوا في أنوفهم قطعا بلاستيكية صغيرة يبدو
أنها قامت باللازم. الجريمة تتطور يا عزيزي، والأفلام وحدها ليست كافية لكي
تصبح خبيرا في هذه الأمور.
- صحيح.. لكن قل لي.. أنا أعرف أن هناك لوحات أخرى في ذات المتحف للفنان
«جيمس ماكباي..» لماذا لم يسرقوها؟
- ذات السؤال طرحناه وطرحه رجال الأمن.. وأولى الفرضيات ترجح أنهم جاؤوا
ّ بهدف محدد واضح: لوحة زهرليزا.. ربما لقيمتها وأهميتها.. ربما لأن هناك من
ّ هو مهتم بها زيادة عن اللزوم ويريدها بأي ثمن من الأثمان.. فرضية أخرى تقول
أنهم اختاروا أثمن ما في المتحف كي يستطيعوا تهريبه خارج البلاد بسهولة
ّ بمبدأ «ما خف وزنه وغلا ثمنه.»
صوت القطرة مرة أخرى، يقطع حبل أفكاره..
ّ هذه المرة بدا في أذن خالد كصوت شتيمة. لم يلتفت. اللهفة المنتهية بإحباط
ّ تدمر أعصابه تماما. بعد قليل، ينظر إلى المربع الأحمر الصغير المغري ويحاول، من
َ مكانه في المطبخ، أن يعرف من المرسل دون حاجة للاقتراب من الجهاز. لا مزيد من
الإحباطات. هذا شعار الليلة.
والشعارات هي أسهل شيء يمكن التخلي عنه طبعا. لهذا لم يطل المقام
بخالد في المطبخ، فلم يشعر إلا وهو يقترب من الجهاز كي تتضح الرؤية ويعرف
من المرسل...
- خـــــــــــــــالد؟!!!
َ هي َ .. هي.. إنها هدى.. هدى تناديه.. لأول مرة يعرف أن إدارة فيسبوك أضافت
خاصية « نقل المشاعر!» مشاعر هدى انتقلت إليه بكلمة واحدة... يتخيل
هدى وهي تنطقها.. خـــــالد؟!! ..بكل الحيرة.. بكل الخوف.. بكل الاعتذار.. بكل
الاشتياق.. بكل الترقب.. بكل اللهفة..
ّ بكل الحب ؟!!
34
ّ هذا ما لم يجبه عنه الفيسبوك للأسف. والآن جاء وقته كي يرسل لها رده
ّ المحمل بمشاعره هو.
- هـــــــدى؟!!!
أتراها وصلتها كما وصلته؟ أخرَجت كل مشاعره عبر العالم الأزرق كي تحتويها
َ وتحتويها هي؟
ْ شرحت له كل شيء. شرح لها. وعدته أنها ستعود في غضون أيام، ووعدها
أنه سيكون من المنتظرين.
ُ - ليل أنتويرب هادئ جدا يا خالد. اشتهيت لك جلسة في حضنه.
- وماذا أقول لطنجة؟!
ّ - لن تغار هي لأنها تسكنك قبل أن تسكنها.. أنت لا تحب طنجة.. أنت
طنجة.
ّ - أجمل تعبير أسمعه عن حبي لطنجة..
ّ - هذه حقيقة.. الجميل فيها أنك صادق.. لست مدعيا لأنه لا حاجة بك لذلك.
- اليوم سرقوا منها – من قلبي – قطعة ثمينة..
- ماذا تقصد؟
- سرقوا لوحة الموناليزا المغربية من المتحف الأمريكي...
- يا إلهي!! إلى هذا الحد تطورت الجريمة بالمغرب؟ وهل هناك موناليزا مغربية
فعلا؟
- طبعا، والقليلون يعلمون بالأمر.. هي فتاة طنجاوية كانت تبلغ من العمر 15
سنة عندما رسمها فنان اسكتلندي اسمه «جيمس ماكباي» سنة ..1952
وجه الشبه بينها وبين الموناليزا أنها تتابعك بنظرها أينما ذهبت.. كما أن
سمتها وطريقة جلستها تشبهان بشكل كبير تلك الخاصة بالموناليزا.. لذا
أطلقوا عليها هذا الاسم.
- ياه! معلومات رائعة أسمعها لأول مرة.
- هذا جزء صغير جدا مما تزخر به هذه المجنونة طنجة..
- الحقيقة أنه خبر محزن..
ّ - هو كذلك.. لا يخفــفه سوى ظهورك بعد اختفاء..
35
- صحيح؟
ٌ - بلا شك.. لك شوق لا أستطيع أن أخفيه.. أنت من النوع الذي يصعب أن
نتجاوزه بسهولة. لديك بصمتك التي لا أجد لها وصفا لحد الآن.
ّ - لا تحملني ما لا أطيق..
- تعلمين أنني صادق..
- أعلم..
ّ يتواصل الحوار. يجن الليل. تغادر هدى الفيسبوك. يصبح العالم الأزرق أسودا ً
كليل طنجة. يتجه خالد إلى نافذته الأثيرة ويتخذ جلسته المعتادة في مواجهة
أضواء الميناء بينما السماء تهدي أولى قطراتها الخريفية لأرض طنجة.
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق