على بعد مليمتر واحد فقط
عبد الواحد استيتو
يرشف كأس الشاي الساخن ببطء وينظر إلى سقف الغرفة متأملا. الغرفة
عالمُ ٌ ه والسقف سماؤه. يقضي هنا كل يومه، بل ونصف ليله. عاطل هو، غير
ّ يائس وغير متفائل. يعتبر نفسه شخصا محايدا. لقد كف عن التفلسف منذ
مدة. فقط يجلس ويُــفسبك. يبحر في عالم الفيسبوك ليل نهار. يقتل الوقت.
يقتله الوقت.
لديه ُ 2111صديق لحد الآن لا يعرف عشرهم لكنهم يؤنسون وحدته.. يملؤون
ُ فراغه ّ الذي فرغ من كل شيء منذ تخرج.. هكذا، مثل بالونة شككتها بدبوس
فأصبحت كجــِلد عجوز في الغابرين.
َ درس َ . اجتهد. تفوق أحيانا. اجتاز الأمر بصعوبة في أحيان أخرى. ومارس هواية
النقل من الآخرين أحيانا كثيرة. في الأخير نجح في التخرج بمعجزة ما. هو
ابن بيئته ولا مفر له مما يحدث. أحيانا يشعر أنه مجرد كرة بين أقدام لاعبين،
َ يتقاذفونها كما يشاؤون دون أن تمتلك – هي – حيلة أو تهتدي سبيلا.
ّ يطلق زفرة قوية، حارة كشهر غشت. يعيد رشف الشاي ويقرأ بضع تعليقات
على ما كتب على جداره الفيسبوكي.
«محاولة فاشلة للتذاكي.. هل كتبت ما كتبت لأنك تؤمن به أم لأنك تريد أن
تظهر لنا أنك حكيم زمانه؟»
كتبت له إحدى «صديقاته» التي لا يعرفها هذا التعليق على جملة كان قد
كتبها في جداره. تقلصت ملامحه. يكره هذا النوع السلبي من البشر. آخر ما
يحتاجه في هذا الوقت بالضبط هو أن ينزل أحدهم بمعنوياته إلى الحضيض. في
قرارة نفسه يعرف أنها قد تكون صادقة، لكن مزاجه بعيد جدا عن قدرة المحاورة
أو الرد. المسألة بسيطة جدا ويفعلها في كل مرة دون تردد. هكذا تجري الأمور في
ّ الفيسبوك.. سلسة وسريعة. اضغط زر «امسح» وينتهي الأمر إلى الأبد.
بشكل ما، بطريقة ما، دون سبب معقول إطلاقا.. توقفت سبابته على بعد
مليمتر واحد من زر الفأرة. تردد لثانية واحدة، ثم قرر التراجع والرد عليها.
كتب في رده «حسنا.. حسنا.. أنا أعرف هذا النوع من البشر.. أنت لا تعلقين
أبدا.. أنت تقبعين منتظرة مثل هذه الفرص كي تفرغي كل ضغوطك وعقدك في
أحد الفيسبوكيين، ويبدو أن اليوم كان دوري في خطتك الأزلية لتصيد الضعفاء
الذين يحبطون بسهولة!! يمكنك أن تكتبي ألف تعليق مثل هذا، لكن الحقيقة
أنني لا أعبأ.. للأسف.»
ّ رد ّ ت عليه. رد عليها. خفت حدة الحوار تدريجيا. توادعا بأدب وبدون مودة. لم
يتفقا على لقاء. لم يهتم كثيرا هو بالحديث الذي دار بينهما، لكنه شعر أنه
استعاد بعض الثقة التي كان سيخسرها لو انتصرت عليه في حوارهما السريع.
لم يرفع الراية البيضاء ولم يدخل في معركة من الأصل. انتهى الأمر بتوقيع
معاهدة سلام غير مكتوبة معها. ابتسم ابتسامة رجل راض عن نفسه. لقد
ّ نجا من ليلة اكتئاب فيسبوكية حادة. هكذا قال لنفسه قبل أن يقهقه بقوة
ويدير ظهره لجهاز الكمبيوتر ولجدار الفيسبوك، وينظر إلى ذلك الشق في حائط
جداره، ويضم الوسادة بقوة إلى رأسه كما يفعل دائما منتظرا حدوث معجزة
النوم. وغدا يوم آخر.
9
-2-
صباح جديد. الحقيقة أنه ليس جديدا تماما، بل يشبه ما سبقه من أصباح.
ٌ فقط، سينقص يوم ً من عمره، وسيزداد دفتر الديون لدى بقال الحي امتلاء.
ّ كان أول ما فعله هو أن مد ّ يده وأشعل جهاز الكمبيوتر كما تعود دائما. بتثاقل
نهض إلى الحمام وغسل وجهه بسرعة محاولا تجاهل برودة الماء الشديدة. مسح
وجهه ونظر إلى المرآة المتكسرة والمليئة بالبقع. قضى بضع دقائق حتى استطاع
رؤية كل وجهه، فالمساحة الصالحة المتبقية من المرآة قطرها بضع سنتمترات
فقط.
ّ نزل الدرج المهترئ الذي يحفظ تضاريسه عن ظهر قلب. استعد لواحدة من
اللحظات التي يكرهها في اليوم كله. طلب من البقال علبة شاي وقطعة
جبن وهو يفتعل اللامبالاة. حاول أن يداعب أنف طفل كان بجواره فكاد يقضم
إصبعه. سمع البقال وهو يدندن بكلمات مفادها أن ديونه قد ازدادت كثيرا وأن
الوقت آن لينتهي هذا العبث. لم يحاول حتى الالتفات إليه وهو يمد يده إلى
بضاعته ويسحبها وكأن شيئا لم يكن.
عزة نفسه تتخلى عنه تدريجيا. شاء أم أبى فقد أصبح رجلا غير مرغوب فيه
في أماكن كثيرة. أي مصائب أخرى قد ترغمه الحياة على ارتكابها؟ تساءل في
نفسه.
اشترى قطعة من أكلة «الحرشة» بــ 3دراهم كانت هي كل ما تبقى له، ثم
عاد إلى البيت ليعيش أجمل لحظاته إلى جوار عالمه الافتراضي. هنا لا أحد يعرفه
ْ بت
ِ
إلا القليل. لا أحد يعرف أنه عاطل. لا أحد يعرف أنه مديون. لا أحد يعرف أنه تر
يداه.
العالم الفيسبوكي الأزرق يفتح ذراعيه له من جديد. الكأس في اليد وقطعة
«الحرشة» في اليد الأخرى، والأصابع – رغم ذلك – تتحرك بيسر وسهولة بين أزرار
لوحة المفاتيح.
يعلق على بعض المستجدات، ويفكر في كتابة خاطرة مناسبة للوضع الذي
هو فيه. قبل أن يفعل سمع صوتا، نقطة ماء تهوي في سطل.. كان هذا صوت
رسالة فيسبوكية آنية...
10
- صباح الخير
- صباح النور
- أتذكرني؟
ّ - أكيد.. المعلــــقة المتحذلقة؟ (أمزح)
- نعم..هي أنا.. كيف حالك؟
- أنا بخير.. لدي كل ما أريده في هذه اللحظة.
- يسعدني أنك قادر على الدردشة بالفصحى.. تزعجني كثيرا تلك «العرنسية»
التي يستعملها البعض (مزيج بين الفرنسية والعربية.)
- لازلت أجد متعة كاملة في استعمال الفصحى.
- أنا شبيهتك.
..... -
َ - لازلت غاضبا مني؟
- إطلاقا..
- يسعدني ذلك..
- وأنا من السعداء بمعرفتك..
- لست من النوع الذي يطلب من الآخرين تقديم سيرة ذاتية عن أنفسهم،
لكنني أتمنى أن أعرف عنك أكثر.
ٌ - صعب هذا في ظل وجود صورة ممثلة هندية في «بروفايلك..» قد تكونين رجلا
وجد أن قمة التسلية هي الدردشة معي.
- تريد أن تقنعني أن صورة بروفايلك هي صورتك الشخصية؟
َ - أبدا.. ولم أفعل؟ صدقي أولا تصدقي.. ذلك فعلا شأنك الخاص.
- حسنا، لا تغضب. تبدو وسيما فعلا.
ٌ - ذلك نقش لا يد لي فيه فعلا..
ٌ - تواضع َ هو؟
- بل إدراك لتفاهة الإعجاب بشيء لا أمتلك في صنعه قطميرا!
- حسنا.. أعدك أن أضع صورتي في المرة القادمة.. مضطرة الآن للمغادرة..
- إذنك معك.. تفضلي.
11
عم الصمت من جديد. انتهى الصخب الإلكتروني كما بدأ. شعر ببعض
الوحشة. لم يفهم كيف ملأت تلك المجهولة عالمه فجأة! ليس متسرعا أبدا. بل
ّ هو ممتلئ لحد التخمة بتجارب تجعله يكره التسرع. لكنه – بينه وبين نفسه –
اعترف أن شيئا غامضا وغريبا يلوح من هذه المرأة. وليخرج من أسر هذه الأفكار
أطلق بسبسة صغيرة، واتجه إلى ركن يطلق عليه إسم المطبخ مجازا. من مكان
ما خرجت قطة تتعثر في مشيتها. عرجاء وعوراء. لهذا السبب بالضبط اختار
أن يربيها. لكــَ ْ ـم كره أولئك الذين يهتمون بالقطط الجميلة فقط. ما ذنب
القبيحة؟ ما ذنب المريضة؟ الناس يفتعلون الطيبوبة والإنسانية بينما كل ما
يهمهم هو إرضاء ذواتهم في الآخرين. حتى لو كان هؤلاء الآخرون حيوانات. «يا
إلهي.. أنظروا إليها كم هي جميلة.»! تقول إحداهن هذا وهي تضم يديها إلى
صدرها وكأنها ملاك. فقط لأنها جميلة تهتم بها. يا له من منطق! الحقيقة
أنها تريد أن تبدو في مظهر الرقيقة على حساب القطة. هكذا فكر. هذا النفاق
البشري يصيبه بالغثيان. انحنى ووضع قطعة الجبن الأصفر جوار القطة التي
بدأت تلحسه بامتنان. ربّ َ ت على رأسها وعاد إلى عالمه الأزرق.
12
-3-
ليل طنجة يبدأ صمته الصاخب. يضع ذقنه على ظهر كفه وهو ينظر إلى
أضواء الميناء الناعسة التي عشقها دوما. منذ طفولته وهو يطل من نافذة
ّ غرفة نومه عليها. يستلذ ذلك الشعور بأن هناك بشرا يسعى في الوقت الذي
ٌ ينعم فيه الآخرون بموتهم الأصغر. بشر جاؤوا للتو من عالم آخر إلى عالمه هو،
على متن الفلك المشحون.
عندما توفيت والدته منذ ثلاث سنوات، طلب منه صاحب الشقة المغادرة لأنه
يريد أن يبيعها. كان حزينا محبطا وقتها ولا يمتلك أي قوة للجدال الشفهي أو
القانوني. لكنه كان يدرك أنه في موقف قوة مادام يقطن بالشقة ولم يخرج
منها بإرادته. بعد مفاوضات دامت سويعات قليلة، اتفق مع صاحب البيت أن
يمنحه تلك الشقة المنمنمة قرب السطح بدون مقابل لمدة ثلاث سنوات، على
ّ أن يخرج للتو من الشقة التي صرخ فيها صرخته الأولى. عز عليه ذلك بشدة،
لكنه آثر السلام النفسي على الصراع.
ْ كان يعلم أن نافذتي الشقة الجديدة تطلان على ميناء المدينة.. وكان هذا
ّ يكفيه جدا.
صوت قطرة الماء إذ تهوي في سطل...
- خالد.. أنت هنا؟!
استدار إلى شاشة الجهاز فوجد ذلك المربع الفيسبوكي الصغير يتألق ويدعوه،
ْ بإغراء، أن تعال. اعتذر لطنجة ومينائها بنظرة أخيرة، واعتدل في جلسته أمام
زرقته الافتراضية.
- نعم.. أنا هنا يا هدى.
- الفيسبوك كان يخبرني أنك «غير متاح.»
ّ - لا تصدقيه كثيرا، فقط تركت الجهاز منذ ساعة فاعتقد أنني مت ربما.
- هه..ما أظرفك.. المهم، كيف أمسيت؟
- جيد. ماذا عنك؟
- بخير. مشتاقة للحديث معك فقط.
13
ّ - كلنا ذاك الرجل.. بالأحرى، تلك المرأة!
ْ - قل لي خالد، أريد أن أطلب منك شيئا – وهو أول ما أطلب مذ عرفتك – فهل
تسمح لي.
- لا تحتاجين للإذن أو السؤال.
- هل يمكننا أن نلتقي؟!
شعر بتنميل في جسده كله. احمرت أذناه وبدأ كفه الأيسر يرتعش كعادته
ّ كلما شعر بالتوتـــر. كم كان يخشى هذه اللحظة. شهران وهما يتحادثان كل
يوم ويتبادلان الأفكار. نمت علاقتهما الافتراضية بسرعة مقبولة. الجميل فيها
ّ أنها تخمن أحيانا ما يفكر فيه دون حتى أن يكتب شيئا. تعرف ما يشعر به غير
ما مرة. لا ينكر أنه معجب بها. الواقع أنه معجب بالصورة التي بناها في خياله.
حاله في ذلك مثل حال ذاك الكاتب الروسي الذي قال واصفا تفكيرَ مراهق «لا
أعرف ما هذا الذي أحبه بالضبط.. لكنني أحبه بشدة.»
ّ هو، أيضا، تعو ُ د على أن الواقع لا يمزح في مثل هذه الأمور. اللقاء يعني صدمة
قوية وانهيارا تاما لتلك الصورة الجميلة التي أعجب بها. يعترف أيضا أنه
ّ جبان بعض الشيء. منذ أصبح مدمنا للزرقة الفيسبوكية وهو يجد صعوبة
في التعامل المباشر في كثير من المواقف. بينما يجد نفسه أسدا في عالمه
الإلكتروني.
ٌ محظوظ ُ هو لأنها أرسلت له صورتها. طلبها اللقاء يعني أنها لم تكن كاذبة
في هذا الأمر. وأن هدى في الصورة هي هدى التي سيلتقي بها، لكنه مع ذلك
يخشى بشدة أن تـُخدش تلك الصورة الافتراضية التي في ذهنه.. صورة الفؤاد
وليس صورة الجسد.
- أنتظر جوابك.
- تعتقدين أن الوقت مناسب؟
- ما الذي يجعله غير مناسب؟
من أين له بالجواب؟ هو فقط يحاول المناورة.
- سأنتظرك غدا الاثنين في مقهى «الشانزيليزيه» في شارع «البوليبار» على
الساعة السادسة مساء. غالبا ستجدني بانتظارك. اعتن بنفسك.
لم تنتظر جوابه. غادرت بسرعة وكأنها تحسم الأمر. سبق أن لمحت له بخصوص
14
رقم هاتفه فأبى بذكاء. الآن هي تطلب المقابلة بشكل مباشر، وهو يبدو كجبان
رعديد لا يستطيع المواجهة. الحقيقة أنها «كانت» تطلب المقابلة. أما الآن فهي
ً «تنتظر» المقابلة تاركة الأمر بين يديه.
بقي متسمرا في مكانه يتأمل مؤشر الفأرة وهو يتراقص وكأن رعشته هو قد
انتقلت إليه. في حين كان يأتي صوت رخيم من بعيد يدندن بالإنجليزية «لونلي
ّ لونلي مانداي مورنين.. أند أي ديدنت هاف نو كومبني.. أور ّ ايت.. أورايت.»
أطل برأسه من النافذة فبدا له أحد أفارقة جنوب الصحراء جالسا فوق عتبة
باب العمارة، وهو يطوح برأسه يمنة ويسرة متغنيا..
كان الصوت شجيا حقا، مشفوعا بحزن ملحوظ. هوت من عينه دمعة دون أن
يشعر.. قال لنفسه: أنت «لونلي» يا صديقي.. وأنا كنت أريد أن أكون «لونلي..»
لكن هذه الوحدة ستنتهي غدا على ما يبدو.. الاثنين أيضا!
15
-4-
يضم معطفه بقوة إلى صدره وهو يتأمل النوارس التي تلهو بالقرب منه
وتتسلى بتبادل الصياح بينها. شاطئ طنجة شبه خال. البرد منع الكثيرين من
الخروج. هو آثر أن يمر على البحر ليحادثه قليلا كعادته قبل أن يعرج على شارع
البوليبار ليلتقي هدى بمقهى الشنزيليزيه.
ّ قضى ليلة نابغية وهو يقدم فكرة ويؤخر أخرى. لقاء أنثى يشترك معها في
ّ أفكار كثيرة يبدو مثيرا، لكنه غير مستعد تماما لأية بدايات في هذه اللحظة.
سفينة عمره تطفو - الآن - فوق بحر هادئ من السطح، متلاطم من الداخل.
وهو لا يريد للأمواج أن تبرز على السطح.. على الأقل في هذا الوقت. لكنه في
ّ الأخير حسم أمره وقر ّ ر اللقاء مع الاحتفاظ بسلاح مهم في جيب مشاعره:
التحفظ.
ما لا تعلمه هدى أيضا أن مجرد لقائه معها سيكلفه بعض المال الذي لا
يملكه. لهذا، اتصل في الصباح بصديقه «منير.»
- صباح الزفت.
- علينا وعليك.
- قل لي، كم رأسمالك الحالي؟
- 350درهم هي كل ما أملك.. لماذا؟
- حسنا، أحضر لي 300درهم، أحتاجها للأهمية.
- لكن.. لن يتبقى لي سوى 50درهما، وكنت أريد...
- سأنتظرك في البيت في الواحدة زوالا..
قبل الواحدة بقليل كان «منير» يدفع الباب الموارَب ويدخل. تبادل بعض اللكمات
مع خالد على سبيل التحية. قبل أن يبدأ بشكوى طويلة حول حاجته إلى المال
وخالد صامت تماما يواصل حلق ذقنه.
- هل انتهيت؟
- نعم..
- حسنا، ضع َ 300درهم فوق المائدة، وانصرف أو ابق معي إن شئت.
16
- بل سأنصرف.. لدي مشاغل عدة.
ّ - إذن، توكـل على الله.
- سأفعل. لعنة الله على صداقة الأوغاد أمثالك.
يقهقه خالد. يرفع منير كتفيه مستسلما ويضع المبلغ على المائدة ثم
يسأل:
- متأكد أنك لا تريد أكثر؟
- لا.. يكفي هذا..
يغادر منير فيتنهد خالد مغمغما «الله يحشرنا مع الدراوش..» منير هو صديق
طفولته. يشتغل بالنجارة ولا يفهم لا في الأدب العربي الذي أُجيز فيه هو، ولا
ّ في غيره. مستواه التعليمي بسيط، لكنه تشرب معاني أصيلة من بيئته فكان
له نعم الصديق دائما. الأغنياء الذين صادقهم لفترات قصيرة كانوا يخذلونه
ّ دائما. هناك ارتباط عجيب بين الثراء والخسة.. المصيبة أن جل الأصدقاء الأثرياء
الذين عرفهم كانوا بالكاد يصمتون من الحديث عن الدين وفعل الخير، وبمجرد
ما يحتاج أحدهم ينكص على عقبيه ويستغشي ثيابه. بينما البسطاء كانوا
ّ دائما يصدمونه بكرمهم وبأخلاقهم. مع منير لا يحتاج للافتعال أو لادعاء أي
شيء. يتصرف كما هو. يعلم أن منير لو لم يكن معه سنتيم واحد فسيذهب
ليستلفه كي لا يترك صديقه في ورطة.
ردد من جديد «الله يحشرنا مع الدراوش.»
كان يفكر في كل هذا وهو يقترب من مقهى الشانزيليزيه. الساعة تشير إلى
الخامسة وخمسين دقيقة. أتراها سبقته إلى هناك؟
التقط نفسا عميقا ثم دخل. تفحص وجوه رواد المقهى في الطابق السفلي،
ُ فلم تبد له هناك. صعد الدرج إلى الطابق الثاني الذي بدا له فارغا إلا من شخص
واحد يجلس في ركن شبه مظلم.. أتراها هي؟
اقترب أكثر حتى استطاع الرؤية فوجد أنها هدى فعلا. بدا أنها لم تنتبه له
وهي تصلح شيئا ما في حقيبتها اليدوية. فكر للحظة في التراجع لكنها
رفعت رأسها في ذات اللحظة فالتقت عيناهما ولم يعد هناك من مفر من
اللقاء.
17
-5-
ُ مضت ساعتان. لم يشعر إطلاقا بالوقت. التهمه الوقت وهو يلتهم كلماتها
وسكناتِها. نزع سلاح «التحفظ» من غمده ووضعه على جنب دون أن يشعر. بدا
له أنها هي أيضا استحلــَت الجلسة.
فاجأه كثيرا أن القالب الذي وضعه في ذهنه تناسب تماما مع هدى دون أن
يحيد مليمترا واحدا. تخوفه وحذره اللذان رافقاه حتى مقعده غادرا بعد دقائق
من بدء حديثهما إلى غير رجعة.
الحب هو تلك المجموعة من التصورات التي نضعها عن فارس – أو فارسة –
الأحلام. عندما يأتي الشخص المناسب لايقوم بشيء سوى أنه يحتل تلك الصورة
ّ بجسده المادي. في قرارة نفسه يقاوم بشدة كي لا يسمي ما يحدث حبا، لأن هذا
سابق لأوانه بشدة.
يشعر بالإعجاب والارتياح وهو يحادث هدى، لكنه لا يريد أن يتورط. تجاربه في
ّ الحب قليلة ومعدودة. النساء اللواتي أحببنه قليلات.. لكنهن أحببنه بصدق.
وهذا ما يخيفه دائما.
يعرف أن حب أي امرأة له ليس أمرا يسيرا بسبب طبعه المتحفظ. لكن عندما
يحدث الأمر يكون من الصعب جدا الخلاص منه. والخلاص لا يأتي بمحض إرادته
طبعا. دائما تحدث أشياء ترغمه على أن يكون هو صاحب المبادرة في إنهاء أي
علاقة.. ولــَ ٍ ــكم عانى من هذا الأمر في كل مرة. كأنه ينزع صنارة صيد َ عنوة ً
من لحم جسده.
هدى مليحة القسمات بشكل كبير. جميلة؟ لا يحب هذا التعبير في الحقيقة.
الجمال من وجهة نظره نسبي دائما. قطته العرجاء العوراء التي يربيها يراها هو،
مثلا، جميلة جدا.
ّ عندما تبتسم هدى تلوح في خدها الأيسر غم ّ ازة. إحدى سنيها الأماميتين
تعتلي الأخرى بلطف. لم ينقص ذلك من ملاحتها بل زادها ألقا ً.
قال لها:
ّ - أتعلمين أنه لولا تردد لثانية واحدة، ومليمتر واحد، ما كنت لأكون هنا؟
18
- حقا؟ كيف ذلك يا خالد؟
راقه أنها نادته باسمه مجردا. تنجح هي بشدة في رفع الكلفة بطريقة
لطيفة قد يصعب حتى ملاحظتها.
- لقد كنت سأمسح أول تعليق لك على ما كتبت يومها في جداري على
الفيسبوك.. بدا لي متحذلقا كثيرا! لكن سبابتي تراجعت في اللحظة
الأخيرة بعد أن كادت تلمس زر الفأرة وتنهي كل شيء.
- يا إلهي! يالك من غليظ القلب. بهذه البساطة تمسح الأجناس اللطيفة
من فيسبوكك؟
- بل قولي بهذا التعقيد. لم أصل لهذه النتيجة إلا بعد مدة طويلة من الإبحار
في الفيسبوك. النقاشات الطويلة ترهقني بشدة، خصوصا أن البعض لا
دور لهم في الحياة سوى إحباط الآخرين. إنهم فيسوباثيون، إن جاز هذا
المصطلح.
تضحك هدى وتطوح برأسها إلى الوراء بخفة، فتتحرك مشاعره مرة أخرى.
أتراها حركات عفوية أم مدروسة؟
- فيسوباثيون؟ مزيج من الفيسبوكيين والسايكوباثيين؟؟ مصطلح تستحق
ّ براءة اكتشافه.. في كل الأحوال، أنت تعلم الآن أنني لست منهم أو منهن.
الحقيقة أنني كنت أتابع كتاباتك على جدارك لمدة، وكنت معجبة بها جدا.. وكان
ّ لا بد لي من تعليق يستفزك. يبدو أنني نجوت من الحذف بسبب ترددك ذاك.
- إذن لم يكن مرورك محض صدفة..
- طبعا لا.. كما قلت لك. أنا معجبة بما تكتب منذ مدة. كنت أقول لنفسي أن
كاتب هذه الأفكار إما أن يكون مؤمنا بها، فهو بالتالي شخص أكثر من رائع.
ّ أو أنه يردد كلاما من أجل الحشو ومل الفراغ الفيسبوكي..
- وماذا اكتشفت؟
خفضت عينيها ثم رفعتهما. التقت عيناهما للحظات. مرة أخرى، تعبر تلك
القشعريرة من وراء ظهره حتى أخمص قدميه. تفتعل هي اللامبالاة وتحرك
ثمالة قهوتها.
- قلت لي أنك تقطنين لوحدك.. أين أسرتك؟
- أسرتي تقيم ببلجيكا.. لم أشأ أن أخبرك في بادئ الأمر كي لا يؤثر الأمر
على مسار علاقـ.... أقصد مسار تعارفنا. أنا الآن، أمضي بضعة أشهر هنا من
19
ُ أجل النقاهة. حصلت على إجازة مرضية من عملي فاخترت أن أمضيها في
المغرب.
ّ - لعلك اعتقدت أنني سأكون من الباحثين عن «أوراق» بلجيكا؟
- لا، أرجوك. لا تفهم الأمر بهذا الشكل. فقط لكل حادثة حديث. الآن جاء
الوقت لأخبرك.
- لا عليك. لم أكن يوما من المهتمين بالهجرة.
ّ - أعرف هذا وليس من الصعب علي استنتاجه يا عاشق طنجة.
لحظات من الصمت كانت تغلف لقاءهما أكثر من مرة. يفكر وتفكر. يبتسمان.
أسعده كثيرا أنها لا تستعمل الماكياج إطلاقا. يكرهه بشدة ويكره كل الروائح
المنبعثة عن طلاء الأظافر وأحمر الشفاه وكل عائلة التزوير غير المحترمة.
خرجا من المقهى. طلبت منه أن توصله إلى البيت بسيارتها فأبى.
- أصررت على الدفع في المقهى والآن تأبى الركوب. رجل شرقي أنت.
- بل رجل طنجاوي.
- تقتلني غيرة حبك لطنجة.
- تقتلني غيرتك من مدينة.
ٍ - المدينة أنثى. والأنثى تغار من كل ذات تاء تأنيث تزاحمها في رجل..
- في كل الأحوال، أنا أقطن قريبا من هنا.. في حي إسبانيول.
- أعلم طبعا.
توادعا. تواعدا بلقاء آخر. بدت له سيارتها رقيقة مثلها. ضغطت دواسة
ّ البنزين ولم تنس أن تلوح له بكفها برقة مع ابتسامة مصنفة ضمن أسلحة
الدمار الشامل.
عاد إلى شقته منهكا تماما. كم من المشاعر تتزاحم اليوم في فؤاده لم يعش
ّ مثلها منذ مدة. أي فوضى تخلقها الأنثى في الرجل؟! حتى شقته بدت له
مختلفة تماما.
سقط كالمغشي عليه فوق سريره. قطته كأنما استشعرت أحاسيسه. تنظر
إليه بعينها الواحدة في حنان مشوب بحذر. حملها بيده ووضعها عند قدمه.
تكومت على نفسها وازدادت التصاقا به، بينما بقي هو يتأمل القمر الذي يحاول
تفادي سحب عابرة.
20
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق