على بعد مليمتر واحد فقط 26

0

قطرات من شتاء شهر مارس تغسل شوارع بروكسيل بحنان لكن بإصرار.
خالد يوقف سيارته غير بعيد عن مقهى لوفونطينا ويترجل. حال دخوله المقهى،
طلب من نادل المقهى أن يضع التلفاز على قناة طيلي بروكسيل المحلية فأومأ
هذا الأخير برأسه بأدب واستجاب.
ّ بمجرد ما أكدت له الزهرة أمس أن زهرليزا موجودة فعلا في قبو الفيلا نفذ
خطته بحذافيرها فأرسل رسالتين من بريد مجهول من مقهى إنترنت إلى كل
من الشرطة البلجيكية وإدارة المتحف الأمريكي.. وإمعانا في الحرص، اتصل أيضا
من أحد الهواتف العمومية بالجهتين معا مانحا إياهما ذات المعلومات بسرعة
ودون أن يمنحهما فرصة سؤاله.
الإضافة الأخيرة التي نفذها والتي خطرت بباله مؤخرا فقط، هي إبلاغ عدد لا
بأس به من وسائل الإعلام المحلية وعلى رأسها قناة طيلي بروكسيل.. الصحافة
تصنع من اللاشيء خبرا كما تعلـــّـــم، فكيف لو كان هناك خبر فعلا، ومن
ّ النوع المتفجر؟!
لو كان الأمن البلجيكي قد قام بواجبه فغالبا سيكونون قد حجزوا اللوحة، في
انتظار أن يؤكد لهم مسؤولو المتحف الأمريكي بطنجة أصالتها أو زورها وهو ما
سيكون قد تم فعلا لأنه حدد بالضبط في رسالته أين يتجلى تزوير اللوحة وأشار
إلى ذلك الانحراف في العين والذي يزيد مليمترا واحدا عن اللوحة الأصلية.
تدخل الزهرة وهي تحتمي من المطر بمظلة وردية صغيرة. يرحب بها بابتسامة
خرجت من أعماقه، قبل أن تفلت منه ضحكة عفوية..
- ما يضحكك؟!
ِ - شكل جسمك النحيل مع المظلة الصغيرة.. بدوت لي كواحدة من بطلات
مسلسلات الكرتون البريئات..
- لعلي ذكرتك بـ «بائعة الكبريت» ؟
ّ - لا.. لا.. إلا هذه.. فيلم معد خصيصا للأطفال تتعذب صاحبته طوال الوقت
ّ ثم تموت؟ والله لا أدري أي سادي قام بكتابته.. كرهته في طفولتي ولازلت..



130
- الحقيقة أنني لست من اللواتي يتغط ْ ين من مطر خفيف كهذا، لكنني
خشيت أن تفعلها سماء بروكسيل وتفاجأني بسيل منهمر..
- صدقت.. مع شهر مارس الموصوف بالمجنون يمكن أن نتوقع أي شيء.. أيها
النادل.. شاي أسود للآنسة لو سمحت...
- لن تسألني كيف عرفت بوجود اللوحة؟
ّ - أتحرق شوقا لأفعل، لكنني أفتعل اللامبالاة كما يليق بشخص في وضعي..
- تصيبني صراحتك الساخرة في مقتل.. المهم يا سيدي أن الأمر كان أسهل
ّ بكثير مما تصورت. فكما قلت لك أن الدكتور برنار كان يدخل القبو أثناء
ّ وجودي لكنني لم أكن ألقي بالا للأمر إطلاقا.. هذه المرة كنت أتربص باللحظة
المناسبة.. وبمجرد ما بدأ تحركه العادي نحو باب القبو، اتجهت أنا نحو زاوية
في الصالة تسمح لي بمشاهدة مساحة كبيرة من القبو.. عملية فتح الباب
البطيئة بالمفتاح وإخراجه منه ثم الدخول وإغلاق الباب تأخذ من الدكتور برنار
وقتا لا بأس به سمح لي بمشاهدة جزء كبير من القبو الذي اكتشفت أنه
شبيه بمتحف.. ذلك الجزء الذي شاهدته كانت زهرليزا تقبع فيه غير سعيدة و
لا راضية بين بضع لوحات أخرى..
- بهذه البساطة؟
ْ - أي والله بهذه البساطة.. طبعا محاولاتي السابقة للتلصص فشلت لأن
ُ الباب م ٌ صمت تماما وثغرة مفتاحه لا تسمح لك برؤية جدار مقابل.. طبعا
لم أحاول حتى أن أطل منها تجنبا لإثارة الشبهات.. ما حدث كان أفضل هدية
قدمها لنا الدكتور برنار قبل أن يؤدي ثمن خطئه الفادح في حق طنجة..
- تشعرين بالذنب؟!
- لا أنكر هذا.. في آخر المطاف كان تعامل الدكتور برنار معي إنسانيا بحتا ولم
يصدر منه ما يُقلق.. لكن اللوحة لابد أن تعود لمكانها والجاني لابد أن يأخذ
ّ جزاءه.. برنار رجل طيب، لكن هذا لا يعني أن يسرق طنجتنا ثم نصمت.. لاحظ
ّ أنني أيضا سأفقد عملا كان يدر ّ علي بضع بضع أورووات.. لكن، كلـــه يهون
في سبيل طنجة..
- حسنا.. هاهي نشرة أخبار الواحدة.. فلنر إن كان هناك جديد..
تتعلق عيونهما بالشاشة المسطحة الكبيرة ومذيع الأخبار يتلو عناوين
الأخبار دون أن يشير إلى ضبط اللوحة وكأنه يتسلى بتعذيبهما.. ينظران إلى
بعضهما البعض بإحباط.
131
يبدأ المذيع في سرد تفاصيل العناوين لكنه يستهلها بخبر عاجل... «خبر عن
ضبط لوحة كانت قد سرقت من مدينة طنجة تعرف باسم «الموناليزا المغربية»
ببلدة واترلو في فيلا دكتور بجامعة».......
هذه المرة تلتقي النظرات المنتصرة، المنتشية.. يمسك خالد يد الزهرة
ّ ويقبـ ّ ـــلها.. تسحبها الزهرة في سرعة وتتورد وجنتاها.. لا يبدو على خالد أنه
انتبه إطلاقا لما فعل وهو يتابع التفاصيل ذاهلا..
ً لقد نجح أخيرا.. لقد فعلها.. لم يذهب مجهوده هباء ّ .. لأول مر ّ ة يشعر أنه قدم
ّ شيئا لطنجة.. شريط الذكريات يمر بذهنه منذ أول تردد.. منذ عرف هدى، وحتى
تعرف على الزهرة.. وشتان بين الاثنتين..
َ - لكي لا أنسى في غمرة الفرحة.. أأحضرت لي نسخة مطبوعة من خبر ذلك
الطفل الإفريقي الذي أنقذتـه في شاطئ لابولونيا كما طلبت منك؟
- طبعا فعلت.. لا أفهم كيف لا يعمل الرابط الإلكتروني الذي أرسلته لك على
الفيسبوك بينما يعمل على جهازي..
- ربما فقط بقي محفوظا في ذاكرة الجهاز.. لأن رسالة تقنية تقول لي أن الخبر
تم حذفه من أرشيف الموقع..
- الخبر المطبوع في جيبي وسأمنحك إياه لاحقا.. أما الآن فأعتقد أنه من حقنا
أن نحتفل بجولة في بروكسيل لن نعود منها حتى المساء..
- لا..لا.. لا أستطيع.. أمامي عمل كثير..
- وأنا أمامي عمل أكثر.. لكننا – أنا وأنت – سنضحي اليوم بكل شيء من أجل
طنجتنا التي جمعتنا.. أو تبخلين عليها بهذا؟
- ما أخبث مبرراتك..
«العنصر الصافي ولما ديالو يجري... مانعبيكش آ لعيلة واخا نبقا عزري..»
ّ يتمايل رأس خالد وهو يردد مع الأغنية الجبلية الطنجاوية كلماتها.. الزهرة تحاول
ّ أن تحافظ على رزانتها لكن صوت آلة «الغياطة» لا يترك لها مجالا فتبدأ في
ترديد الأغنية مع خالد..
ّ خالد يصفق ويحور كلمات الأغنية..
- ما نعبيكش آ «الزهرة» واخا نبقا عزري (..لن أتزوج بك يا الزهرة حتى لو بقيت
عازبا..)
132
لا تتمالك الزهرة نفسها فتنفجر ضاحكة غير قادرة على التماسك..
- خالد.. انتبه.. هذه السيارة..
يضغط خالد الكابح بقوة إذ تقطع تلك السيارة السوداء الطريق عليهما
بشكل مفاجئ.. لا يفهم ماذا يحدث بالضبط.. ينزل منها شخصان مقنعان
ويطلبان من خالد والزهرة النزول بسرعة.. الطريق الضيقة تلك خالية تماما من
أي شخص أو سيارة..
ينزل خالد والزهرة وهما ذاهلان تماما.. مصدومان.. عاجزان عن الفهم..
يخرج أحدهما مسدسا بينما يبقى الآخر على مسافة بعيدة قليلا يراقب
الطريق..
- أي كلمة تصدر منكما تعني رصاصة مني فورا.. هيا انزلا على ركبتيكما
معا..
يستجيبان له وخالد يحاول أن يفهم منه بحركة من يده، لكن فوهة المسدس
ّ تصده مرة أخرى.. ينظر إلى الزهرة فيجدها تبكي.. يتمزق قلبه قطعا.. فقط لو
يفهم ماذا يجري؟
يسمعان معا صوت زر أمان المسدس إذ يرجعه المقنع نحو الخلف..
يصوب المقنع المسدس نحو رأس خالد أولا ويبدأ في الضغط على الزناد..


لا يوجد تعليقات

أضف تعليق