يصرخ الشخص الذي يراقب الطريق في الآخر ثم يقترب.
- لا تنس يا أخي أنه يريدها أن تبدو كسرقة.. ليس سرقة السيارة فقط.. بل
حتى ما يملك هذان.. و لا أريد أن آخذ ممتلكات ملوثة بالدم..
- حسنا.. أسرع وفتشهما..
يدخل الرجل يده في جيوب خالد فلا يخرج سوى ببضع قطع نقدية. يرميها
في إهمال وغضب.. يدخل يده في سترته فيجد ورقة، فيفردها في حنق متزايد..
ّ يهم برميها قبل أن يتراجع في آخر لحظة.. ينظر إليها. يناولها لصاحب المسدس
متسائلا:
- أليس هذا هو خبر الحادثة؟
- آه..نعم .. إنه هو .. غريب جدا... أنت.. ماذا تفعل بهذه القصاصة الخبرية في
جيبك.. أجب.
ّ يصمت خالد دون أن يجيب. ماذا ستفيده الإجابة؟ هو ميت في كل الأحوال..
فليحتفظ لنفسه بواحدة من آخر حقوقه.. الصمت.
يشعر بارتجافة جسد الزهرة وكأنها تحرك الأرض تحت قدميه فيزيده هذا ألما
على ألم وخوفا على خوف..
- هيا أجب بسرعة..
- وماذا تفيدك إجابتي؟!
- قلت لك أجب بسرعة..
- لقد كنت أنا من أنقذ ذلك الوليد..
- أنت أنقذت هذا الرضيع؟
- نعم..
- أجبني بصدق وإلا فجرت رأسك.. أنت أنقذت هذا الرضيع؟!!
- قلت لك: أنا.. أنقذت... ذلك .. الرضيع.. لا أحتاج كذبا في آخر لحظات حياتي
على ما يبدو...
- قل لي بدون تردد كيف فعلت ذلك، فأنا أعرف القصة كلها..
يروي له خالد بأنفاس متقطعة القصة كلها. يرخي الرجل قبضته المتشنجة
حول المسدس ويترك يده تتدلى جانبه كأنها أصيبت بشلل مفاجئ. الآخر ينظر
ّ إليه منتظرا أية أوامر..
يسقط الرجل المسدس ويجلس على الأرض منهارا، باكيا.
خالد لا يفهم ما يحدث. الزهرة تستدير في بطء لتستكشف من بين دموعها
ماذا يحدث بالضبط. الرجل يدفن وجهه بين راحتيه ويبكي بصوت مسموع.
الآخر ذاهل ولا يدري ماذا يفعل بالضبط..
- هذا الرضيع الذي أنقذته هو ابني.. وتلك زوجتي.. لقد سبقتها إلى هنا على
أن تلحق بي.. انتظرت كثيرا ولم تصل. لكن وصلني خبر وفاتها وخبر هذه
القصة من عدد من أقربائنا وأصدقائنا هنا.. أنا أيضا احتفظت بنسخة من
ّ هذا الخبر متحيـــــنا اللحظة التي أذهب فيها لهذا المستشفى وأعود بابني
الوحيد.. لكن أرجوك قل لي.. هل فعلا ماتت زوجتي قبل أن تلده؟
- نعم.. ذلك ما حدث بالضبط.. لقد حاولت جاهدا إنعاشها لكنني لم أستطع
إلى ذلك سبيلا..
- لكنك أنقذت فلذة كبدي..
- أنقذه الذي خلقه ويريد له مزيدا من العمر..
ينهض الرجل ببطء.. ينزع عنه قناعه لتبدو بشرته السمراء.. يقترب من خالد
ّ ويضمه وهو يجهش ببكاء حار. خالد يحاول أن يتماسك..لكنه، إذ يستحضر ما
حدث في شاطئ لابولونيا، يترك العنان لدموعه أيضا..
الزهرة تعتدل في وقفتها وتتكأ على السيارة وهي تكفكف دموعها وتنظر
للرجلين حائرة. هل حقا يحدث هذا أم أنها تحلم؟!
يقول الرجل وهو لازال يعانق كتف خالد..
- أنا سولومون.. هذا أخي ماكسيمليان..
- وكنتما تنويان التخلص منا؟
- بصدق.. ذاك ما كنا سنفعله..
- كيف ولماذا؟
135
- الحقيقة أننا لا نسأل عندما نكلف بمهمة كهذه، لكننا في هذه المهمة
بالضبط تعاملنا مع الزبون مباشرة.. وهو الدكتور برنار الذي شاهدنا قبل
قليل خبر القبض عليه..
- هو أمركما بقتلنا؟
- أمرنا بالتخلص منكما..
- لا أجد فرقا بين المصطلحين..
- في كل الأحوال.. يبدو أنه لم يجد الوقت للفرار بغنيمته لأنكم كنتم أسرع
منه على ما يبدو وبلغتم عنه.. نحن لم نكن نعلم كل هذا طبعا إلا عندما
شاهدنا نشرة الأخبار.. لكننا لم نكن نريد أن نخسر سمعتنا في الوسط الذي
نشتغل فيه.. لقد أعطينا الرجل كلمتنا وقبضنا الثمن وكان لا بد من تنفيذ
المهمة التي بدأناها بمراقبتكما ثم عرض صورتك على الدكتور برنار..
إذن فالرجل لم يكن غبيا ولا ساذجا. يبدو أنه لاحظ تحركات الزهرة التي حاولت
ألا تجعلها مريبة، ثم أمر بمراقبتها. طبعا، المراقبة أسفرت عن الكشف عن خالد،
الذي يعرف برنار أنه هو من سجن ظلما في قضية زهرليزا، وغالبا عرف أنه جاء
من أجلها.. هكذا قرر أن يتخلص منهما بأبشع طريقة وأرخصها، أو أغلاها..
- كم دفع لكما؟
- 5آلاف يورو للشخص..
- تنزعان أرواح العباد من أجل 5آلاف يورو..
- هذا ما نقوم به.. لكنني، الآن، في الحقيقة مدين لك بروح ولدي الذي أخرجته
ٍ من موت إلى حياة.. ماهو الثمن الذي تريده؟
- أولا: أن تتركنا وشأننا طبعا.. ثانيا: أن تخبر الدكتور برنار في سجنه أنك قد
أديت المهمة على أكمل وجه.. ولا أعتقد أنك ستجد صعوبة في تلفيق قصة
كاملة بخصوص ذلك..
- أعدك أنني سأفعل.. واعلم أن خدماتي كلها رهن إشارتك.. هيا يا أخي
لننسحب.. وأنت اعذرينا يا آنسة.. لقد كنا شديدي الفظاظة فعلا.. لكنه
عملنا .. أرجو أن تتفهمي هذا..
يحتضن سولومون خالد ويسحب أخاه وراءه ثم ينطلقان. خالد يفكر في قول
شيء أو شيئين لكنه يتراجع. الزهرة مصدومة ذاهلة..
يوصلها إلى منزلها.. تلوح إليه بكفها وتنزل..
136
لا كلمة قيلت.. لا لوم.. لا عتاب.. لا اعتذار.. لا شيء..
فقط هو الصمت كان وظل سيد الموقف حتى افترقا.
يدخل خالد البيت وهو يشعر بحمى شديدة تنتابه.. الآن تبدأ كل آثار الحادث
في الظهور عليه.. جسده يرتجف بقوة.. قلبه يخفق.. قدماه كأنهما عجينتي
معكرونة.. يرتمي فوق فراشه وهو يلهث كأنه عدا للتو عشرات الكيلومترات..
ّ يحمد الله في سره على نجاته. لا يكاد يصدق مرة أخرى أن كل هذا يحدث له..
كل هذه الصدف.. كل هذه النكبات المتبوعة بانفراج غريب سببه ثانية واحدة
أو أقل..
ّ يحاول أن ينام فيفشل فشلا ذريعا. يشغـــــــل جهاز الكمبيوتر ويجلس
أمامه متأملا غير قادر على الإتيان بأية حركة. يطفئه. ينهض إلى النافذة ويتأمل
ليل بروكسيل.. المدينة التي لا يدري إن كان قد أحبها أم كرهها، لكنه بدون
شك سيغادرها متى ظهرت له أول فرصة كي يعود لحضن طنجة.. الوحيد الذي
يستطيع أن يشفي كل جراح الروح هذه..
137
-34-
ّ إرهاصات حب تنتهي بمكر وخديعة.. تعارف لطيف ينتهي بصدمة..
في الأولى كان الطريدة. في الثانية كان الصياد. لكن النتائج دائما كانت على
غير ماتشتهي سفنه.
يمضي خالد أيامه ما بين العمل والبيت. لم يعد يطيق التجول في شوارع
بروكسيل بعد الحادث. كان يعلم أنه جرح كبير لن يشفيه سوى الزمن..
وطنجة.
أحيانا يتبادل مع الزهرة حديثا خفيفا على الفيسبوك.. حديث عابر لا معنى
له في الغالب. عبارات مجاملة لا أقل ولا أكثر. عبارات تحاول بها هي على ما يبدو
ّ ألا تبدو كدنيئة تخلـــــت عنه عند أول محك حقيقي.. بينما هو يحاول ألا
..
يقطع حبل ودّ ّ اهترأ بسبب ذات المحك
كلاهما يجامل. كلاهما يفتعل. كلاهما يتهرب من الحديث عن يوم الحادث.
ّ لم يعتذر لها. أي ّ اعتذار يمكن أن تقدمه لشخص كنت ستكون السبب في
ّ فقدانه حياته؟ الاعتذار – ها هنا- أقبح من الزلـــــة ذاتها. يبدو أن دواء الصمت
لازال قادرا على شفاء جروح كثيرة.. أو محاولة ذلك على الأقل.
معاذ يحترم صمته. يحاول أحيانا أن يخرجه من عزلته تلك باقتراح أنشطة
يعرف أنها في الغالب ستثير حماس خالد.. لكن أذني خالد كانتا من طين وعجين..
الرفض هو الجواب في كل مرة. يستسلم معاذ ويترك خالد يأخذ وقته في علاج
جرحه ذاك بنفسه.. قمة الحكمة أن تترك الآخرين وشأنهم أحيانا كثيرة. ومن
ّ يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
الشيء الوحيد الذي كان يخفف عن خالد آلامه هو متابعته لقضية زهرليزا
على عدد من المواقع الإخبارية البلجيكية والمغربية. عادت زهرليزا إلى المتحف
معززة مكرمة. تم القبض على الدكتور برنار وكل من تعاون معه، بعد اعتراف
مفصل من طرفه.. لم تشر كل الصحف التي طالعها إلى اسم هدى، لكنهم
غالبا كانوا يقصدونها ب»كل من تعاون معه،» هي والعصابة الدولية تلك.
138
تمر شهور ثلاثة.. يقترب موسم عودة المهاجرين المغاربة من أوروبا إلى أرض
الوطن.. موسم العبور. اللحظة التي انتظرها خالد بفارغ الصبر للعودة إلى
معشوقته الأبدية طنجة.
يسافران معا هو ومعاذ من بروكسيل إلى طريفة بالسيارة. أمواج كبيرة من
المهاجرين تعبر الفوج تلو الآخر. شرطة الحدود تكتفي بتمرير الجميع دون مراقبة
الجوازات تقريبا. استعمل خالد جوازا قديما تدبره له معاذ ورفعه في وجه الجمركي
الذي أمره عبر الزجاج الحاجز أن يواصل سيره.. من يمتلك الوقت لترف مراقبة
ٍ عائد ّ إلى وطنه؟ الخطر يأتي من القادمين سرا وليس من العائدين جهرا.
تصل الباخرة إلى ميناء طنجة حيث يبلغ الزحام أشده. ينتهز خالد فرصة
مشاجرة بين شرطي ومهاجر فينزل من سيارة معاذ ويعبر تلك النقطة من
الميناء على قدميه.. ثم يستدير ويقف وكأنه في انتظار شخص ما..
- أنت.. من سمح لك بالدخول إلى هنا؟!
- لقد طلبت إذنا.. أنا صحافي.. هاذي بطاقتي.. أقوم بتحقيق عن عودة
المهاجرين.. أهناك مانع؟
- نعم، هناك مانع.. لابد أن تحضر لي رخصة من ولاية الأمن الرئيسية..
- أوه.. أرجوك.. لا ترهقني من أمري عسرا..
- لا أملك لك حلا.. هيا لا تعطلني..
- لا بأس.. لا بأس.. لا تغضب.. أقدر ضغط العمل..
هكذا، تظاهر خالد أنه كان في مدينة طنجة وليس في الباخرة. نجحت خدعته
البسيطة تلك. خرج من الميناء سيرا على الأقدام وهو يتظاهر بالغضب لأنهم
منعوه من إنجاز تحقيقه..
ّ أوصله معاذ إلى حيـــــه الذي اشتاق له. يجد «عزيزة رحمة» تحاول أن تصلح
ّ المصعد بمجهود خاص وهي تتأوه..
ّ - ألم يغيروا هذا الصندوق الأسود بعد؟!
- خالد.. ولدي!!...
يرتمي خالد في أحضان العجوز. لحظة انتظرها كثيرا جدا. لم يقل أي شيء.
فقط بقي يلتمس الأمان في حضنها لدقائق وهي تداعب شعره ودموعها تنساب
ّ على خديها كحال كل الطيبين. عند الفرح يبكون، وعند الحزن يبكون..
139
قطته «الطمأنينة» تموء بقوة وتتمسح بقدمه. يعرف أنها لم تنسه. يحملها
بين يديه ويصعد شقته. هاهي ذي كما تركها، بل أفضل بكثير. «عزيزة رحمة»
قامت بالواجب وأكثر. لا أوساخ.. لا أتربة.. لا رطوبة.
يتساءل: ماذا كنت سأفعل بدونك يا عزيزة رحمة؟
يضع أمامه صحن «اللوبية» الذي أصرت عزيزة رحمة على أن يتذوق منه قبل
ّ أن يفعل أي شيء آخر.
ينظر إلى جهاز الكمبيوتر الصامت. يخاطبه: منك كانت بداية كل شيء،
لكنك تستكين وتتظاهر بالبراءة.
تبدأ حياة خالد في العودة إلى دورتها الطبيعية بعد أن زال دوار السفر ودوار
الغربة. يوما عن يوم يسترجع الأيام الخوالي. يسترجع خالد الذي نسيه في غمرة
مغامرته تلك.
يتساءل حقا إن كانت مغامرة تلك التي خاضها.. ما معنى المغامرة على أية
حال؟! أليس الشخص الموجود في غرفة مغلقة هو شخص آمن مبدئيا؟ لكنه
في الحقيقة مهدد بنقص الطعام والشراب والأكسجين.. أحيانا تكون قمة
المغامرة هي محاولتك التماس الأمان.
صوت طرقات على الباب...
- المهدي.. أهلا ومرحبا.. كيف حالك؟
- ممتاز مادمت قد عدت لنا.. المهم.. جئتك من سبأ بنبأ..
- اللهم اجعله خيرا..
ّ - لا أعلم أشر هو أم خير، لكن إدارة المتحف الأمريكي اتصلت بي وطلبوا مني
أن تزورهم غدا في المتحف على الساعة الحادية عشرة بالضبط..
- لم تعرف ماذا يريدون بالضبط؟
- لا.. ولم أشأ أن أطيل الحديث لأنني عاتب عليهم كما تعلم مذ طردوني..
- نعم أفهم..
يصعد خالد ما يسمى «الدروج ميريكان..» يدخل الدرب الذي يقع به المتحف
الأمريكي. يضغط جرس الباب وينتظر. يفتح له الباب حارس الأمن..
- تفضل، إنهم ينتظرونك هناك في تلك القاعة..
140
- شكرا جزيلا..
بمجرد ما يلج خالد القاعة يسمع صوت انفجارات وفرقعات، فيتراجع جزعا:
- ما الذي يحدث هنا؟!
141
-35-
كان حفلا بسيطا أنيقا. لم يكن هناك الكثير من الحضور. فقط موظفو
المتحف الأمريكي وصديقا خالد المهدي ومنير، وبضع صحافيين. ألجمت المفاجأة
في بادئ الأمر لسان خالد فصمت عن الكلام المباح. يومئ برأسه شاكرا عاجزا
عن الكلام بينما يصفق له الجميع إذ يدخل باب المتحف، بينما يتسلى البعض
بتفجير بالونات ومفرقعات على سبيل الترحيب..
ٌ من وسط الوجوه يطل وجه نحيل باسم بعيون سوداء ينحرف سواد إحداها
نحو اليسار.. وجه الزهرة. يصعق خالد.
- أأنت وراء كل هذا؟
- ومن غيري؟ في كل الأحوال كان لابد لأحد أن يخبرهم بالحقيقة كاملة.. من
المجحف حقا ألا يعلم أحد بالتضحيات التي بذلت من أجل اللوحة ومن أجل
طنجة..
ُ - ما فعلته لأ ُحــْــمد..
- مثالية جميلة.. وأعرف أنك ما كنت لتفعل ذلك يوما.. أنا قمت بالمهمة بدلا
عنك لأعفيك مما لم ولن تفكر فيه أصلا!
- لا أدري أأتفاجأ من الحفل أم من وجودك هنا؟
- لقد حضرت قبلك بثلاثة أيام، وجئت المتحف كي أحكي لهم كل القصة..
أما الاحتفاء بك فكان اقتراحا منهم لا مني بصراحة..
- اعتقدت أنها كانت آخر مرة أراك فيها يوم أوصلتك بعد أن...
.
ْ - توقف.. لا تنكأ جرحا بدأ يندمل
كانت هناك كعكعة في وسط المائدة المستطيلة كتب عليها «زهرليزا -1952
.»2013
- ماذا تقصدون بالتاريخين؟
َ - إنهما تاريخي ولادة الزهرة.. الأول سنة رُ َ سمت، والثاني سنة ُ ولدت من جديد
بعد أن أعدتـَها.
142
يلقي مدير المتحف كلمة قصيرة يسرد فيها تاريخ لوحة زهرليزا وحكاية خالد
معها قبل أن يمنح الكلمة لخالد. يتفاجأ الأخير. يتنحنح.
- شكرا لله.. شكرا لطنجة.. شكرا لكم..
فقط ثلاث جمل قبل أن يشير بيده للجميع أن واصلوا الاحتفال.. لقد قلت ما
ّ لدي. لقد كان خالد صادقا في عدم رغبته في الفخر بما فعله من أجل طنجة.
ُ لقد قدمت له طنجة أشياء كثيرة لا يمثل ما فعله عشرها في نظره.
تقول له الزهرة:
- هناك جديد في موضوع التحقيق مع عصابة بلجيكا..
ُ - صحيح؟ آتيني آخر الأخبار.. لقد لقيت من لهفتي نصبا.
- لقد حصلت هدى على البراءة..
ّ - هل أنت جادة؟
- نعم.. لقد وجدت تفاصيل قضيتها في جريدة محلية غير واسعة الانتشار..
.. واضح جدا أنها داهية.. محاميها طالب من الدكتور برنار والعصابة أن يأتوا
ببرهانهم إن كانوا صادقين.. فالبينة على من ادعى. لكن واضح جدا أنه لم
يكن لديهم سوى الكلام وبضع رسائل غامضة المحتوى لا تستطيع أن تمسك
من خلالها بشيء. في آخر المطاف وجدوا أن شراء حقيبة سفر كهدية ليس
جريمة يعاقب عليها القانون فأطلق سراحها..
- لا بأس.. هذا أفضل.. لا أحب أن يعيش أحد نصف ما عشته في السجن،
خصوصا لو كان أنثى..
ٌ - لا زال في القلب شيء من هدى؟
- ثقي أنني لا أعاني من متلازمة «ستوكهولم.» صحيح أنني لا أكرهها ولا
أرغب في الانتقام منها، خصوصا بعد أن رأيت ما رأيت من الحياة.. لكن هذا
ّ لا يعني أن في القلب أي مشاعر نحوها.. كما لا يعني ألا نقوم بالتسلية
التالية..
- وما هي هذه التسلية؟
يجر خالد الزهرة من يدها ثم ينادي أحد الصحافيين قائلا:
- اسمع.. سأخصك بحكايتي الكاملة لنشرها بشكل حصري لكن بشرط..
- شروطك أوامر..
143
- أن تزين تقريرك بهذه الصورة التي ستلتقط لي الآن أنا والزهرة..
ٌ - كلام لا يُ ّ رد..
يقف خالد والزهرة وبينهما، في الخلف، تبدو لوحة زهرليزا.. يبتسمان. يضغط
الصحافي زر التصوير.
تسأل الزهرة:
- لماذا بالضبط هذه الحركة؟
- سنرسل هذا التقرير كاملا لعزيزتنا هدى بعد أن نحصل على عنوانها.. عدم
الحقد لا يعني عدم التشفي..
- يالك من عابث..
المهدي يخبر خالد أنه سيعود للعمل في المتحف بعد اعتذار وطلب من الإدارة.
ينتهي الحفل. يغادر الجميع. يقصد خالد والزهرة مقهى «الحافة» المطل على
َ البحر.. الأمواج تغني سمفونية سعيدة كانت قد نسيت إيقاعها ذات حزن.
ُ شمس ِ صيف طنجة تلوح بيدها مودعة تاركة زمام الأمر لـــليلها الصاخب.
خالد والزهرة صامتان يتأملان المشهد. يقولان آلاف الكلمات ولا يُسمع
حسيسها. يتحدثان ولا يحركان شفاههما. صمتهما يثرثر بينما قلوبهما تعلن
ّ ميلاد حب طاهر نقي تحضنه طنجتهما..
خالد، أخيرا، يبدأ في ذهنه بكتابة أولى كلمات روايته القادمة:
شعرة واحدة.. ثانية واحدة.. حركة بسيطة.. كل هذه التفاصيل التي لا نلقي
لها بالا، قد يكون لها – أحيانا كثيرة – تأثير كبير على حياتنا.. بل قد تغير حيواتنا
ّ إلى الأبد، وبشكل كامل. تردد على بعد ملمتر واحد قد يحول دفة مركب الحياة
إلى اتجاه لم نكن نعلمه...
- النهــــــــــــــــــاية -
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق