مناخها وأجواؤها التي تجعلك ترغب في البقاء في الفراش لمدة أطول.. يقولون أن
الطنجاويين كسالى. الحقيقة أنهم فقط أبناء محيطهم ولا يد لهم في ذلك..
ليل طنجة الرائع يجعلك تسهر حتى وقت متأخر من الليل..
ّ صباحها الناعس الذي يتمطــى بكسل يجعلك تؤخر استيقاظك لساعة أو
ساعتين..
هي مدينة مدللة أبت إلا أن تدلل أهلها فما استطاعوا أن يمتنعوا عن ذلك وما
استطاعوا لها رفضا..
ّ ينتزع خالد نفسه من فراشه انتزاعا. أي موعد هذا الذي يكون في الثامنة
صباحا؟! يغسل وجهه بالماء البارد آملا في بعض النشاط.. قطته التي تخلصت
من عرَجها تنتظر وجبة صباح مبكرة مفاجئة.. يضع لها خالد بعض الحليب
البارد. يلبس ثيابه على عجل ويغادر.
ّ مقهى «السعيدي» ليس فارغا كما توقع. هناك بضع عمال عابرين وبضع
زبائن ذاهلين يشاهدون فيلما هنديا يقضي فيه البطل على أمة كاملة دون
حاجة لأي تعب.. يفعل ذلك وكأنه في نزهة حقيقية.
في السابق، لو كان دخل هذا المقهى لالتفتت إليه جل العيون باعتباره
ّ «رجلا أبيضا رقيقا» تجرأ على دخول مكان خشن لا يناسبه.. ولاستنكروا ذلك
استنكارا..
ُ أما الآن، فيبدو أن السجن قد ترك عليه أثرا ما لا يمحى.. سيماه على وجهه..
الساعة تشير إلى الثامنة. لأول مرة ينتبه أنه لا يعرف الشخص الذي اتصل
به.. لا إسما ولا صفة ً ٌ .. لكن، مؤكد أن الآخر قادر على تعرفه كوجه جديد في
المقهى..
- السلام عليكم..
ّ أخيرا هل البدر. بدون مقدمات سحب كرسيا وجلس بقرب خالد مناديا على
كأس قهوة بالحليب.
- وعليكم السلام.. أنت...؟
- نعم هو أنا.. من أرسلك؟
ّ - قلت لك في الهاتف ولد الحوات..
- جميل.. فلنبدأ من آخر الكلام أفضل..
ّ - أفضل هذا..
- لدي رحلة يوم الاثنين، أي بعد غد، وأخرى في بحر الأسبوع القادم..
- أريد الأولى..
- للأسف، لا يوجد مكان شاغر.. ستضطر لانتظار الرحلة الثانية..
- لماذا تخبرني بموعدها إذا كان الأمر قد قضي فعلا؟ أنت تتسلى على ما يبدو..
إذهب إلى الجحيم..
- ماذا قلت؟! كيف؟
- قلت: اذهب إلى الجحيم.. ولك هذه الإضافة كهدية: عليك اللعنة..
صرخ بها خالد في أذن ذاك الشخص مثيرا انتباه رواد المقهى. الارتباك ووقع
ّ المفاجأة يربكان جليس خالد. يتنحنح. يبتلع ريقه. يقول برنة مختلفة محاولا
ما أمكن أن يجعلها ودودا أخوية:
- إسمع يا أخي.. لا تكن سريع الغضب هكذا.. من الأفضل أن نتفاهم بهدوء..
ّ - لا يبدو أنك مستعد لذلك..
استعاد خالد شخصيته التي اكتسبها في السجن. شعر أنه لو أظهر
بعض الطيبوبة مع هذا الشخص فسيلتهمه كما تلتهم الأكـَـــلة محتويات
ُ قصعتها. سيناوره. سيكذب عليه. سيسرق ماله. سيشبعه وقاحة ً وقلة أدب.
بدأ خالد يشك فعلا أنه يعاني من ازدواج في شخصيته. فهو نفسه لم يشعر
ّ كيف تحو ّ ل من شخص هادئ إلى آخر متوحش فجأة..
- طيب إسمع.. سأتدبر لك مكانا في الرحلة القادمة.. لكن لابد أن تزيدني ألف
درهم على المبلغ الرئيسي.. صدقني سأضحي من أجلك..
- كلام جميل.. وما هو المبلغ الأصلي؟
- عشرة آلاف درهم..
- اتفقنا.. ترتيبات الرحلة؟
94
- سأشرحها لك بالتفصيل...
يركب خالد هو وعشرون شخصا آخرون سيارة نقل متوسطة الحجم من
منطقة «المنار.»
البدر مكتمل لكنه لا يظهر إلا على استحياء من حين لآخر خلف سحب
ّ ثقيلة. ابتسامته سمجة. لا تدري إن كان يبتسم أم يكشـــر. هو البدر الذي
ّ يغير أمزجة الناس كلما اكتمل.. هو البدر الذي تعوي عند اكتمال استدارته
ّ الذئاب ويتحاب العشاق تحت ضيائه.. فيكشر لهذا ويبتسم لذاك..
ٍ يتأمله خالد من نافذة تجاوره.. يسبح به فكره بعيدا بعيدا..
هذه المرة لم يخبر عزيزة رحمة أين سيذهب، فقط طلب منها أن تعتني
ّ بالقطة وبالشقة حتى يعود. لم يترك لها الفرصة لتسأل أو تودع.
ّ لا مزيد من لحظات الوداع الأليمة.. هكذا قرر.. كل شيء ينبغي أن يتم بسرعة
ٌ وحسم.. دع تلك المشاعر تتراكم بالداخل الآن حتى يأتي يوم ّ يفجرها فيه... أو
ّ تفجره هي..
المهدي ومنير أخبرهما بما يعتزم فعله، لكنه لم يخبرهما بأية تفاصيل.. ولا
حتى بموعد سفره..
سفره؟ يبتسم ابتسامة هازئة. يا له من سفر على أمواج قارب مطاطي
(باطيرا..) سفر بدون عودة في الغالب.. هجرة سرية كان يقرأ عنها ويتأسف
لأصحابها، والآن هو يفعلها..
كم تغير الظروف والأيام قناعات البشر.. الحمقى فقط هم من يعتقدون أنهم
ّ في منأى عن تقلبات الزمن..
كان يعرف أنه لن يستطيع استعادة جواز سفره الذي أخذوه منه في بلجيكا..
ولو استصدر جوازا آخر لوجد نفسه أمام عقبة تأشيرة «شنغن» التي يستحيل
ّ أن يمنحوه إياها بعد ما حدث.. ولو فعلوا، بمعجزة ما، فسيكون قد مر زمن طويل
ّ تفتر معه هم ّ ته، ويفر ّ الفارون والمتآمرون عليه بغنيمتهم.. وهذا ما لا يستطيع
أن يحتمله إطلاقا..
تتوقف السيارة قرب منطقة جبلية تنحدر نحو شاطئ رملي ضيق محاط
بصخور من الجانبين. قال له السمسار السابق أن اسم الشاطئ هو «مريسة د
ّ المعاز..» وأن القرية اسمها «حسانة..»
95
يأمرهم السائق بالنزول..
- هيا ستنزلون مباشرة نحو الشاطئ وستجدون هناك « السي ميمون»
بانتظاركم..
ً السي ميمون حسب التعليمات هو قائد القارب. وهو، ابتداء من اللحظة
سيكون الآمر الناهي. ينزلون المنحدر تباعا..
إشارات ضوئية متقطعة تسطع في عيونهم فيتجهون نحوها..
- أنا السي ميمون.. هيا إصعدوا بسرعة..
تكدسوا جميعا في القارب الضيق. يتأكد خالد من أنه لم يفقد حقيبته
البلاستيكية بعد. يتحسس المبلغ الذي ربطه بشريط لاصق حول صدره.
كل رأسماله الذي كان قد تبقى له من سفره إلى بلجيكا إضافة إلى هدية
«الطمأنينة..» كان قد حولها إلى أوراق من فئة 10أورو..بهذا الشكل يضمن أنها
ّ لن تضيع دون أن يشعر.. يحس بثقلها ووجودها في ذاك الكيس حول صدره.
يزأر المحرك وينطلق القارب. يقول لهم السي ميمون مادحا نفسه إنه ذكي جدا
ك» المهاجرون لحظة اكتمال البدر.. فكلهم يختارون
ِ
لأنه لا أحد يتوقع أن «يحر
الليالي المظلمة. بينما هو خالف المألوف واختار ليلة مقمرة لكنها غائمة..
ّ هكذا يخدع حر ٍ اس السواحل ويستفيد من ظلمة ليل ٍ غائمة ُ سماؤه.
ّ البحر هادئ. طنجة تبتعد مر ّ ة أخرى. غصة كبيرة في حلق خالد وقلبه لكنه
يقاوم. لأول مرة يتفرس في وجوه من معه تحت ضوء قمر يختفي ويظهر.
ربعهم تقريبا مغاربة. الباقون كلهم من دول جنوب الصحراء بينهم ثلاث
نساء.. أثارت إحداهن انتباهه. بطنها منتفخ بشكل ملحوظ. حاملا كانت. فكر
أنها على وشك الولادة فعلا.
أحدهم يدندن بأغنية إفريقية ما. لا يفهم خالد من الكلمات شيئا، لكنه
يشعر بها.. الغربة، الألم، الوحدة، الوطن القاسي. لا تحتاج لمترجم لتفهم هذا.
يكفي الشجن في صوته.
الصمت يغلفهم من جديد. صوت القارب وحده يعزف سمفونية الحياة... أو
الموت.
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق