هناك ألقاب جميلة، وهناك ألقاب قبيحة..
وهناك ألقاب لا تجدها إلا في مدينة طنجة..
ّ عيناك ضيقتان قليلا؟ إذن فأنت «التشينو..»
شعرك أشقر بعض الشيء؟ إذن فأنت هو «الروبيو..»
أما إن كانت بشرتك سمراء فمرحبا بك يا «إفريقيا...» والله المستعان على ما
تصفون..
الحقيقة أن خالد لم يستغرب خالد كثيرا عندما سمع ب«الطمأنينة» لأول
ْ مرة.. و«الطمأنينة» هو لقب زعيم مجموعة في السجن ذات قوة وهيبة.. ليست
ّ منافسة مباشرة لمجموعة «المسموم» في الحقيقة، لكنها في ذات قوتها رغم
ّ غياب أي احتكاك بينهما.. يبدو أنه لحد الآن لم تتضارب مصالحهما بعد، كما
يبدو أن الاثنان معا يتجنبان ذلك.. لديهما من المشاكل والمشاغل ما يكفي..
«الطمأنينة..» ما أروع أن يناديك الناس ب«الطمأنينة..»
كان خالد يعلم أن هذا اللقب هو نتيجة غلطة فادحة غالبا.. غلطة في أقسام
الدراسة الابتدائية حيث يسألك الأستاذ مثلا عن معنى الطمأنينة فتجيب:
- إنها الشجاعة يا أستاذ..
فتفلت ضحكة خافتة من الأستاذ، ثم ينفجر القسم ضاحكا وكأنهم جميعا
كانوا يعرفون معناها. هذا قبل أن يكشر الأستاذ في وجوه الجميع مجددا ثم
يتسلى بصفعك على مؤخرة رأسك.
ّ هكذا.. خطأ صغير جدا قد ترافقك تبعاته إلى قبرك..
الحقيقة أن المسألة ليست بذلك السوء في كل الأحوال.. لم نسمع بعد عن
شخص انتحر لأن لقبه «الطمأنينة..»
طبعا لم يكن بين «الطمأنينة» ولقبه إلا الخير والإحسان، فالرجل من مرتادي
السجن بتهم عديدة يتعلق أغلبها بالنهب والسطو على الممتلكات والمتاجرة
في المخدرات..
لكن خالد لاحظ أن «الطمأنينة» ليس بذلك الشر الذي يبدو به.. راقبه أكثر
ّ من مرة وهو يحتفظ ببقايا بعض وجباته ثم يطعمها لقطط السجن.. تلك
إنسانا لم يتلوث معدنه الداخلي بعد، رغم تلك القذارة التي تبدو طافية في
الخارج..
من خلال قصته، التي سمعها من السجناء، علم خالد أن «الطمأنينة»
يختلف تماما عن «المسموم..»
ً كل ما كان يريده «الطمأنينة» هو أن يكون بخير.. يرتكب أخطاء كثيرة في
ّ طريقه نحو أحد هدفيه، أو كليهما، لكنه لا يقصد ذلك ولا يريده.. هو فقط لا
لا يعرف طريقة يداعب
ٍ
يعرف طرقا كثيرة للوصول إلى هدفه.. بالضبط مثل فيل
بها صاحبه سوى التلويح به بخرطومه أو الدوس عليه بقدمه..
حتى الأخطاء تختلف..
هناك دائما أخطاء وهناك هفوات.. هناك كبائر وصغائر.. هناك آثام وهناك
فواحش..
ّ «المسموم» كان يحب الشر.. يستمتع بأذية الآخرين.. «الطمأنينة» لم يكن
يؤذي أحدا على الإطلاق ما لم يتعرض للأذى..
ّ هكذا، كان على خالد أن يتقر ّ ب منه. عرف قص ّ ته. وعرف أنه في هذه المرة،
ُ سجن ظلما فعلا..
يحمل صفيحته التي تحتوي على أكلة «العدس» ويقترب منه ثم يجلس
قبالته:
- الطمأنينة..
- الصحافي...
- هانية؟
- م لهنا...
- ش فيها؟
- شاحتة...
79
ّ كان خالد قد تعلم لغة السجن. هنا مل الناس الثرثرة. شعار الحوارات هو
ّ الاختصار. قل ما تريد بأقل الكلمات. هؤلاء الناس مل ّ وا من الكلام المنمق.. سمعوا
منه ما تفيض له الوديان دون نتيجة تذكر.
- سمعت أنك بريء..
- قالوا..
- أكتب عنك مقالا؟
- تستطيع؟
- أكيد.
- سهلة؟
- بسهولة التهامنا لهذا الحصا.. أقصد العدس.. صورة؟
ّ - لدي..
ّ هكذا تصرف خالد بسرعة. سرب مقالة بتوقيع مجهول وصورة مع صديقه
المهدي. الحقيقة أنه لم يدافع عنه.. هو فقط أعاد صياغة الوقائع بطريقة
مختلفة قليلا، مع تساؤل في الأخير: فهل الشخص المعروف ب«الطمأنينة» هو
من فعلها حقا؟
ّ وجاء من أقصى السجن رجل يسعى..
حمل معه نسخا من الجريدة وأعطاها لزعيمه «الطمأنينة..» خلق الحدث
ضجة كبيرة في السجن وأكسب خالد المزيد من الشهرة والاحترام..
باستغراب شديد لاحظ خالد أن «الطمأنينة» لم يعبأ إطلاقا بمحتوى المقال.
لقد كان سعيدا برؤية صورته في الجريدة.. بدا أن هذا كل ما يهمه.. لم يكن
ّ مخطئا عندما ظن أن طفلا كبيرا لا زال يسكن هذا الرجل..
اقترب من خالد ولكمه في كتفه ثم بصق على الأرض.. كانت هذه أسمى
عبارات التقدير والشكر بالنسبة له..
- أنت رجل..
- وعدتك..
ّ - العز للرجال..
- سمير ساعدني كثيرا في هذا الأمر..
80
- هو رجل أيضا..
سمير لم يفعل أي شيء. لكن خالد كان يريد أن يضمه معه بشكل ما إلى
عصابة «الطمأنينة..» لابد في السجن أن تنتمي لجماعة ما.. إنما يأكل الذيب من
الغنم القاصية..
هكذا اتضح الأمر للجميع: خالد وسمير من جماعة «الطمأنينة» الآن.. والويل،
كل الويل، لمن سيقلق طمأنينة «الطمأنينة» بإيذاء أصدقائه..
هذا ما كان يريده خالد بالضبط. يعلم أن «المسموم» لم يكن ليصمت على
ذلك الموقف السابق كثيرا. أصحاب القلوب السوداء لا ينسون أبدا. حياته في
السجن كانت ستتحول إلى جحيم وهو ينتظر انتقام المسموم منه ومن سمير
في أية لحظة. الآن، لاحظ أن «المسموم» هو من يتحاشاه في أكثر من موقف..
ّ لم يكن مخطئا عندما عرف أنه جبان.. مجرد غدار آخر لا يمتلك القدرة على
المواجهة حقا..
يتبادل خالد وسمير أطراف الحديث في زنزانتهما..
- عليك أن تحلق شعرك الآن وتترك لحيتك تنمو..
- لكن..
- لا تعترض.. ألا زلت لم تفهم الوضع بعد؟ هذا عالم له مقاييسه الخاصة..
الوسامة والسمت الهادئ احتفظ بهما إلى حين وجودك هناك في العالم
الخارجي.. هنا قمة الجمال أن تكون بشعا.. أشعث أغبر.. هناك حكاية غربية
عنوانها «قرية العميان،» يجد فيها البطل نفسه في قرية كل أهلها لا
يبصرون.. تعتقد أن هذه ميزة أم نقيصة؟
ّ - يفترض أنها ميزة، لكن مادمت تروي لي القصة فــ.....
- بالضبط.. لقد اعتبرها أهل القرية نقيصة.. كان البطل يحاول أن يتحدث
لهم عن زرقة السماء.. عن الخضرة.. عن سريان الماء في النهر.. لكنهم كانوا
ّ يصدونه ويسخرون: ماذا يقول هذا الأحمق بالضبط؟ وهكذا تستمر القصة
حتى يستسلم البطل ويفكر في فقأ عينيه كي يصير مثل أهل القرية
لتنتهي مشاكله ويصير «شخصا عاديا..» لحسن حظك أنت لن تضطر لهذا،
لكنك مضطر لبعض التغييرات كي يتم قبولك في قرية العميان هذه..
- منطق مرعب لكنه، للأسف، صحيح.. وقد تأكد لي أكثر من مرة..
81
- جميل إذن..محاكمتي غدا.. قد أعود كمقيم، وقد أعود لأجمع حاجياتي
فقط ولو أنه أمر مستبعد.. لكن إياك أن تفارق جماعة «الطمأنينة..» هو الآن
ّ يحترمك ويقدرك بشدة.. فحافظ على هذا المكسب..
- سأفعل ما استطعت إلى ذلك سبيلا..
يقف خالد خلف قضبان المحكمة. هذا المشهد لم يكن يراه إلا في الأفلام.
غالبا سيخرج القاضي ليقول أن المحكمة «حكمت حضوريا على المتهم بالإعدام
شنقا..» هذا ما يفعلونه دائما.. لكن الواقع يختلف.
ّ كانت المحكمة غاصة بالحضور. لم يعرف خالد أن قضيته أخذت هذا البعد
الإعلامي الاجتماعي إلا في هذه اللحظة. البعض كان يلوح له بإبهامه دلالة
ّ على النصر.. بينما هو بالكاد يستطيع ابتلاع ريقه.
يقترب منه المهدي:
- إن شاء الله خير.. محاميك جهبذ حقيقي..
- تعتقد؟
- متأكد.. لقد سمعت بنفسك.. الرجل لم يترك ثغرة إلا وتسلل منها.. الدعوة
إلى بلجيكا التي لم تخطط لها وجاءتك على حين غرة.. اللوحة التي بقيت
في الحقيبة خمسة أيام كاملة.. الرسالة المجهولة التي توصل بها البوليس
الدولي..
- سنرى..
يسمع خالد دقات قلبه المرتفعة وكأنها طبول.. أتراهم يسمعونها هم أيضا؟
عرق يسيل من جبينه.. من إبطيه.. يفقد القدرة على الاستمرار واقفا فيلجس
في انتظار خروج القاضي للنطق بالحكم..
يرى «عزيزة رحمة» وهي ترفع كفيها متضرعة لله.. يشعر بأمل حقيقي وكأنه
سمع نبأ براءته للتو..
يسمع شبه جلبة وهمهمة.. يقف الجميع فيقف هو أيضا إذ يسمع أشهر
صرخة في التاريخ..
«محكـــــمة...»
« بسم الله الرحمن الرحيم..
82
فإنه، وبعد الاطلاع، على الإثباتات التي تقدم به دفاع المتهم..
وطبقا للمادة».....
يصاب خالد بصمم كامل. يسمع ولا ينصت. ينتظر فقط آخر ما سينطق به
القاضي.. لا يعبأ لا بالنصوص القانونية الآن ولا بموادها ولا فصولها. لا بالنيابة
العامة ولا بالدفاع ولا أي شيء..
ّ فقط يريد النتيجة.. النتيجة التي ستحول مجرى حياته..
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق