على بعد مليمتر واحد فقط 13

0

يضع خالد قطعة بسكويت في فمه ويمضغها بتثاقل وهو يحادث المهدي. يبدو
المكان كسوق كبيرة ملآى لغطا وصياحا. الزوار والمساجين يجلسون متجاورين
ّ وكل يغني على ليلاه..
- لم أرغب في الحصول على البراءة مثلما أنا راغب في ذلك الآن..
ٌ - الحقيقة أن هذا لم يخطر ببالي أنا أيضا.. صحيح أنني لم أغفل الموضوع،
ْ لكنني أبي ّ ت الحديث معك حوله عالما أنك تدرك جيدا ما تفعل..
ّ - لازالت الحياة تحتفظ لنا بالكثير.. في كل مرة تعتقد أنك ازددت حكمة
ّ تكشف لك أي ّ أحمق متكبر كنتــَ ُ ه.
- ما لا أستطيع فهمه هو ما دامت هدى خططت لهذا كله، فكيف فشلت
في إتمام خطتها الرئيسية وهي الحصول على اللوحة؟ هل هذا يعني أن دخولك
السجن كان هو الهدف؟! منطقيا هذا شبه مستحيل، لأن من يستطيع
التخطيط لكل هذا، لن يصعب عليه إطلاقا إيجاد خطة أبسط بكثير من
أجل إدخالك السجن..
- ها أنت ترى... رأسي يكاد ينفجر من كثرة التفكير في الأمر.. الرسائل
تبين بوضوح أنها وأحد الأشخاص الأجانب كانا يخططان لتهريب اللوحة
عن طريقي.. مثلا، تحدثت له عن أنها وجدت الهدية «اللائقة» بي.. كان هو
ّ يحثها على التأكد من حجم الحقيبة كي تناسب «القميص..» فهمت جيدا
أن «القميص» يقصدون به لوحة الموناليزا المغربية من خلال مراجعة كل
الرسائل.. لقد فهمت البداية لكنني عاجز عن فهم النهاية..
- ماذا تنوي أن تفعل الآن؟
- كما ترى، العين بصيرة واليد قصيرة جدا.. لكنني لو حصلت على البراءة
فأعدك أنني سأكون أنا من يقرر النهاية وليسوا هم.
ّ - أرجو ذلك فعلا.. زرت محاميك مؤخرا أنا أيضا.. يبدو شابا ذكيا جدا ولمّاحا..
يمسك جيدا خيوط القضية في يده.. بالمناسبة، لا تفكر في التبليغ عن هذه
الرسائل التي وجدت؟



73
ّ - لا.. ما يوجد بين يدي الآن ليس دليلا على الإطلاق.. سيعتقدون أنني لفقت كل
هذا – وهي عملية سهلة بالمناسبة – ور ّ بما ازدادت قضيتي تعقيدا.. حتى المحامي
لم أخبره كي لا أربكه.. وها أنت تتصل بنفسك برقم ذلك الشخص فتجد أن
ٌ الرقم لم يعد موجودا أصلا.. واضح ّ جدا أنهم تعاملوا ببطاقات هاتف ٍمؤقتة
ّ مجهولة الهوية ثم تخلصوا منها.. لاحظ أننا نتحدث عن عصابة دولية،
وليس مجموعة من الهواة..
ّ - عصابة دولية كل همها إدخالك السجن؟ هذا مثير للجنون..
ّ - هناك حلقة مفقودة في الموضوع كلــــه أعدك أنني سأبذل كل جهدي
ّ لأعرفها.. لقد وهبني الله عقلا مثلما وهبهم.. ولأكونن الرجل الذي يستغل
ّ هذه النعمة إلى أقصى حد َ إن كتبت لي البراءة..
ّ - أدعو معك في السر والعلن..
ّ - لا أشك لحظة في ذلك..
في زنزانته يراجع خالد ميزانيته المالية. ما يملكه من المال في تناقص، وهذا له
ّ معنى خطير جدا في السجن. قد يفقد الكثير من الامتيازات. كان محظوظا
ّ جدا لأنه استطاع الاحتفاظ بذلك التعويض الذي منحته إياه جمعية «أدباء من
كل مكان» وقام بتحويله إلا الدرهم المغربي عن طريق صديقه منير.. أيضا، كان
لازال يحتفظ بالمبلغ الذي كان ينوي أن يقضي به ما تبقى من أيام في بلجيكا
قبل أن انتهاء مهلة التأشيرة..
قضية سمير كانت تشغل باله بشدة. استطاع أن يغمض عينيه عن مخالفات
ّ كثيرة في السجن لأن أغلبها كان فيه تراض بين الطرفين.. المخدرات، مثلا، تهرب
وتباع.. هذا خطأ.. لكن هناك بائع راض ومشتر راض في الأخير.. وهو يعلم أنه
ّ ليس المنقذ ولا المخلــ ّ ــص كي يغير كل هذا..
ّ لكن موضوع سمير يتجاوز المخالفة إلى الاعتداء.. اعتداء قوي على ضعيف..
ّ تدمير حياة شخص بالكامل لمجرد أنه غير قادر على الدفاع عن نفسه.. كم
الحيوانية في الموضوع، ولجوء سمير إليه، لا يتركان له هامش الاختيار..
إما أن يدافع عن سمير أو ينخرط في جمعية « الشياطين الخُرس..» وبئس
الانتماء هــــو.
يتجه سمير نحو المراحيض دون أن ينتبه إلى أن المسموم قد أشار لرفيقين له
بملاحقته، قبل أن يتبعهما هو أيضا..
74
اللحظة التي خشيها خالد كثيرا جاءت بسرعة. تزداد نبضات قلبه تسارعا.
يشعر بخوف شديد. يتساءل: من أين يأتي أبطال الأفلام بكل تلك الشجاعة؟!!
يتبع هو أيضا المجموعة كلها. يدخل المرحاض فيجد أن عملية التحرش والإيذاء
قد بدأت لفظيا:
- لا داعي لأن تجعلنا نختار الطريقة الصعبة معك..
- تفضل أن تـــُـــغتصب أم تقتل؟ لك الاختيار..
- لاحظ أنك بعد هذا ستصبح من جماعتنا ولن يؤذيك أحد..
تصل هذه العبارات إلى مسامع خالد وهو يلج. يسمع الثلاثة وقع أقدامه
ّ فيستديرون إليه. يقول «المسموم» بتحد:
ْ - أش كاين؟!
- لا شيء. أريد أن أقضي حاجتي..
ّ - ليس الآن عد فيما بعد.. هيا..
ّ كان يتحدث برن ْ ة فيها جبروت وتهديد وكبر. لــكم كره خالد وجهه وصوته.
- كنت أتمنى هذا، لكن مثانتي لها رأي آخر.. أنا أتفهم.. هي لا.
ّ - أها.. أنت هنا لتتحدانا إذن؟
- شي حاجة فحال هايداك..
ّ بشكل مفاجئ أخرج خالد من خلف ظهره حديدة حادة على شكل سيف.
ّ وحركها بطريقة تظهر أنه ألف استعمالها دائما.
ّ - أربعة في المتحف.. وثلاثة هنا؟ لا مشكلة.. إنه المؤبد في كل الأحوال..
ينظر إليه الثلاثة نظرات غريبة..
يعلم أنهم غير مسلحين..
ّ هم خائفون.. متوجسون.. مترددون.. يقد ّ مون قدما ويؤخرون أخرى.. يشعر
ُ بخوفهم.. أتراهم يشعرون برعبه؟
بدوْ ٌ ا له كضباع جاء يبعدهم أسد عن الفريسة. هي هي تلك النظرة التي رآها
في أحد البرامج عن عالم الحيوان..
ّ بدت له لحظة ترددهم كسنة كاملة مما يعد. أخيرا، انسحبوا ببطء و«المسموم»
يلوح بسبابته بمعنى « لقد ارتكبت خطأ فادحا..»
75
ّ في الزنزانة شرح خالد لسمير ما حدث. لقد استعان بالمال مرة أخرى من أجل
ّ أمرين: حصل على السيف وعلى رخصة حمله مؤقتا، ثم تدرب على تحريكه
بطريقة توحي بالاحترافية الإجرامية.. ثم اشترى أغرب شيء يتصوره بشر في
السجن.. «إشاعة...»
نعم اشترى خالد إشاعة مفادها أنه عندما «سرق» اللوحة قتل أربعة أشخاص
بالمتحف الأمريكي! ومصدر الإشاعة كان طبعا موثوقا جدا: أحد الحراس.
ّ البعض يصد ّ ق والبعض لا يصدق، لكن للإشاعة سطوتها التي لا تقاوم.. هي
لمئات الأشخاص!
ٍ
كرة الثلج التي تتدحرج ليتحول قاتل شخص إلى قاتل
ّ والناس يحبون تصديق هذه الأشياء. ذكره هذا بفيلم مصري كان قد شاهده
ّ عن شخص يشبه أحد المجرمين الملقبين ب«الوحش.» كان الجميع يفرون منه
ّ ويخشونه بينما هو لا يفهم. يحاول أن يقنعهم أنه مجرد مسكين لكن الناس
تأبى التصديق.. إنهم يريدون شخصا يخشونه ويصنعون منه أسطورة.
هكذا، استسلم بطل الفيلم للواقع وأصبح «وحشا» رغما عن أنفه في بادئ
الأمر، قبل أن يستسيغ ذلك ويتحول إلى وحش فعلا. الناس يصنعون الأصنام ثم
يعبدونها.
في الأخير كان لخالد ما أراده وأصبحت سمعته الإجرامية لا بأس بها. بينما
كان هو يرسم على وجهه تعبير «الرجل البارد الذي يوحي بالأمان والثقة لكنه
قادر على قتل قبيلة!»
هكذا إذن، وظف تلك الإشاعة عندما دخل خلف عصابة «المسموم» الذين آثروا
السلامة على ما يبدو.. ولو مؤقتا..
- لقد كنت بارعا في تحريك السيف بتلك الطريقة...
- هاها.. لو أفلت من يدي لكنت في موقف محرج فعلا..
- ماذا لو كانوا تجرأوا على مهاجمتك..
- والله لا أدري.. ر ّ بما كنت فعلا أضفتهم إلى الأربعة الذين قتلتهم في المتحف.
يقهقهان بقوة. يشعر سمير بالامتنان فيقبل رأس خالد ويذهب للنوم. خالد
ينظر إلى الجدار الذي يقابله.. بالضبط إلى أحد الشقوق الذي يذكره بشقته..
حنين يعتريه إلى حياته البسيطة تلك قبل دخول السجن..
76
ّ مرة أخرى يشعر بذلك الشيطان يتضخم ويتضخم.. موقف اليوم أثبت له أن
أغلب الطغاة والمجرمين هم جبناء يتظاهرون بالشجاعة، وعند أول محك يتبولون
في سراويلهم..
هو أيضا كان خائفا جدا، لكن يبدو أنه نجح في إخفاء شعوره. يتذكر لحظة
إمساك مقبض ذاك السيف التقليدي في يده. يفهم الآن لماذا يرتكب الناس
الجرائم. ذلك الشعور بالقوة والتمكن الذي تمنحه مقابض الأسلحة رهيب جدا.
الحقيقة أنه كان ينوي فعلا أن يستعمل ذلك السيف لو كانوا هاجموه.. في
السجن يجد المرء نفسه أمام خيارات محدودة.. وهو يختار الخيارات الأصعب..
ّ لكنها الأصح.. على الأقل في نظره.


لا يوجد تعليقات

أضف تعليق