للاستدانة من كل من يعرفهم. بعضهم رفض بأدب. بعضهم بوقاحة. في
الأخير وجد أن الذين وافقوا هم نفس الأشخاص الذين يلجأ إليهم كلما واجهته
صعوبات مادية، وكثيرا ما يحدث هذا. أصدقاؤه وبعض الذين يثقون فيه يعرفون
أنه ولا بد رادّ الديون إليهم. فقط هي مسألة وقت.. مسألة ظروف.. هؤلاء يزيحون
كل الغشاوة.. كل الأغلفة.. فيروْن معدنه الأصيل لا زال يبرق هناك.
ّ الغريب أن جل من وقف إلى جانبهم يوما تنكروا له. الحقيقة أن هذا ليس
ُ غريبا.. بل هذا بالضبط ما كان يتوقعه. من قال أن الناس طبعهم الوفاء؟! لا
يسعى إلى
ٍ
ّ يخشى شيئا في كل هذه الأحداث سوى أن تحوله هو الآخر من بشر
ّ حيوان يدب.
إن استمر الحال هكذا سيكون مضطرا للتحول إلى وحش هو الآخر مثل
الكثيرين. لكنه عندما يهدأ يتراجع. لو نجحت ظروف الحياة في تغييره فهذا
سيجعل كل مبادئه مجرد فقاعات هواء كان يختبئ خلفها ويحتمي بها. المبادئ
لا تتزحزح بمجرد ظروف عابرة. هكذا فكر.
أخيرا استطاع أن يجمع رصيدا لا بأس به.
لم يكن يتصور أن الحصول على تأشيرة سيتم بتلك السهولة لكنه حدث.
أحيانا تكون كل الصعوبة في الفعل ذاته. بينما النتائج – على العكس - تكون
سهلة ميسرة لدرجة أنها تفاجئنا نحن الذين كنا نرتعش من احتمال الفشل.
اتصلوا به من القنصلية طالبين منه أن يكون هناك في حدود الواحدة زوالا.
وجد مجموعة من الأشخاص ينتظرون حكم الإعدام أو البراءة. تتم المناداة على
الأسماء...
أنت... ستغادر السجن..
أنت.. ستبقى في ضيافتنا قليلا...
هكذا بالضبط بدا له الأمر. بل إن ردود فعل المرشحين للحصول على التأشيرة
كانت توحي له أن الأمر أكبر من ذلك أحيانا. بعضهم ينهار تماما وترى تلك النظرة
المرعبة المرتعبة في عينيه والتي تقول: انتحاري مسألة وقت!
حاء دور الوجدان الجمعي، وأصبح هو أيضا مرعوبا من رفض طلبه وبدأت كفه
ّ اليسرى في الارتعاش كعادتها كلما توتــر.
ٌ جاء دوره. منحته موظفة جواز سفره المختوم بالتأشيرة مع ابتسامة لطيفة.
بادلها الابتسام محاولا أن يرسم أمارات الثقة على وجهه الذي يخشى أن
يفضح رعبه.
انتهى كل شيء كما بدأ فجأة.. عاصفة من الأحداث والأحاسيس والمشاعر
ّ انتهت به بوضع جواز سفره المؤشـــر في جيب معطفه.
اتصل بهدى، التي كانت قد سبقته إلى بلجيكا، ليزف إليها البشرى. يتخيلها
تضحك بطريقتها التي ترجع فيها رأسها إلى الوراء. تبارك له وتقول له أنها في
الانتظار.
ّ - لم أشك للحظة في هذا.. إياك أن تتأخر.. عجل بحجز أول تذكرة إلى مطار
ّ «زافنطم» أو «شارل لوروا..» وأينما حللت سأحضر لأقلك إلى إقامتك التي
خصصتها لك الجمعية..
أخبر العجوز «رحمة» بالأمر فأصرت على أن تجمع حاجياته في حقيبة السفر
الضخمة التي أهدته إياها هدى. الحقيقة أنه كان محتاجا لهذا بشدة. هو فاشل
ّ تماما في مثل هذه الأمور. في أحسن الأحوال كان سيكور كل ما يوجد في دولاب
الملابس محاولا أن يتظاهر أنه يطويها..
- الله يعطيك الخير يا «عزيزة رحمة...»
- آمين.. أعرفكم يا أولاد اليوم.. في الغالب كنت ستضع كل الملابس هنا دفعة
واحدة لتجدها هناك وقد أصبحت كالعجين..
- أنت تقرئين الأفكار يا عزيزة..
- إيه.. هذا ما أنتم فالحون فيه.. الكلام الفارغ..
- حسنا سأخرج لقضاء بعض الحاجات. أقفلي الباب واحتفظي بالمفتاح عندك
حتى أعود..
- وفقك الله وحفظك يا ولدي..
ّ يقب ّ ل رأسها ويخرج متحاملا على نفسه كي لا ترى رحمة دمعته. هو يحب
ّ هذه المرأة ولا شك. أبوه.. أم ّ ه.. جد ّ ه.. جد ّ ته.. يبدو وكأنها أخذت نصيبا من كل
واحد منهم، لذا يغيب ذلك الشعور بالحرمان كلما تحدث معها.
45
ّ زار بعض أقربائه الذين لم يراهم منذ مد ّ ة.. عمه.. خالته.. عمتاه.. أسعدتهم
الزيارة. يعترف لنفسه أنه كان مقصرا جدا في زياراته لهم. لديهم جميعا
أطفال صغار، وهؤلاء ينتظرون طبعا المفاجآت التي يحملها معه «عمو خالد..»
و«عمو خالد» كان مفلسا للأسف.. ويكره أن يرى تلك النظرة المحبطة في عيون
ّ الأطفال إذ يكتشفون أن عمهم خالد جاء غير محم ّ ل بالحلوى أو اللـــــعب..
هذه المرة استخرج من ميزانية السفر مصروفا خاصا بهذه العملية. تقول له
خالته:
- لماذا ستسافر يا ولدي.. أنت صحافي والناس يحترمونك هنا.. ماذا ستفعل
في بلاد الغربة..
آه لو علمت الحقيقة يا خالتي.. لبكيت كثيرا ولضحكت قليلا. يفكر خالد.
- الحقيقة أنني سأعود في غضون أسابيع.. إلا إذا حدث طارئ..
- إياك أن تتزوج من هناك.. البنات هناك لديهن حقوق تفوق حقوق الرجال هنا..
ستفقد كل مروءتك..
يضحك دون أن يجيبها. هذا الجيل القديم خطير جدا. كأنهم جميعا يقرؤون
أفكاره. يتحدثون عن الأمور ببساطة تبدو ساذجة، فإذا بهم يصيبون كبد
الحقائق. لله درهم.
عندما ودع العجوز رحمة لم يتمالك نفسه وأجهش ببكاء صامت. رحمة
كانت تبكي أيضا، بصوت مختنق قالت له:
- إحذر السهر والنساء يا ولدي..
- هكذا لن يعود لسفري معنى يا عزيزة رحمة..
تضربه على كتفه وهي تضحك باكية:
- أيها الخبيث.. حفظك الله من كل مكروه.
- آمين.
المهدي ومنير يرافقانه إلى مطار ابن بطوطة. يترك حقيبته تعبر جهاز الماسح
الضوئي في مدخل المطار، بينما منير يمازحه:
- لا تكذب.. كم كيلو حشيش لديك في الحقيبة..
46
ّ - الحقيقة أن الحشيش لا يأتي بمال كثير، لذا ارتأيت أن أجرب الهيروين هذه
المرة..
ّ تعبر الحقيبة، فيهم بحملها قبل أن يستوقفه صوت رجل الأمن :
- أنت.. نعم أنت.. إذا سمحت.. إيـــِتني بحقيبتك..
يحمل حقيبته ويضعها أمام رجل الأمن الذي يأمره بفتحها، بينما يسأله هو
ّ بصوت حاول ما أمكن أن يخفي فيه نبرة التوتــــــر:
- ما المشكلة بالضبط؟؟
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق